كأردنيين، حينما نسألُ عن مستوى الحرياتِ في بلدنا، تكون الإجابةُ بأن المستوى “لائق”، بمعنى أن الحالةَ العامّةَ مقبولةٌ وإنْ كنا نسعى لتحسينها، وكذلك يعني ذلك أن الوضع عند مستوى معقول.
الدلالاتُ على ذلك متعددةٌ، فمستوى السقفِ الصحفيِ في الإعلام أيضا لائقٌ ولا أقولُ عظيما، وفرصُ الناس في نقدِ السياسات العامّةِ كذلك، ونقدُ أداء الحكومات معقولٌ، وبدرجة لا يمكنُ مقارنتها بكثيرٍ من البلدان العربية الشقيقة.
النتيجةُ السابقةُ لم تكنْ صدفةً، بل هي نتاجُ العلاقةِ بين المجتمعِ والدولةِ بكل مؤسساتها وأطرافها منذُ تأسيسِ الدولةِ، وكذلك نتيجة العمل لعقودٍ طويلةٍ على تكريسِ الأردنِ كدولة قانونٍ ومؤسساتٍ، في طريق بناء الدولة المدنية التي تلتزمُ وتحترمُ مبدأَ الحقوقِ والواجباتِ، وتؤمنُ بالتشريع والقانون لإدارةِ مختلفِ مفاصلِ المشهدِ العامِ بناءً على توزيعٍ مدروسٍ للمهمات.
وحقُ التعبير ميزةٌ إضافية نتمتع بها كأردنيين كونها مكفولةً بموجب الدستور ووفقا للقوانين المطبقة لدينا، وفي ذلك مرابحُ عديدةٌ للجميع، فأن نكون دولة قانون ومؤسسات فذلك تحصينٌ للمجتمع من ظواهرَ سلبيةٍ عديدةٍ، أهمُها الحمايةُ من الإرهاب والتطرفِ اللذين ينتشران في البيئات غير الحرةِ التي لا يحكمها التطبيقُ العادلُ للقوانين.
خلال السنواتِ الماضيةِ لا ننكرُ أن بعضَ المؤسسات تقاعستْ عن تطبيق القانون وتحصينِ حقوقِ الناسِ، فرأينا ممارساتِ بلطجةٍ في الشارع وتحتَ أعُينِ الأمنِ والناسِ، لذلك نسمع كل يوم عشرات الأخبار عن مداهماتٍ وإلقاءِ القبض ِعلى أصحاب أسبقيات خطرين لا ندري لماذا لم يكونوا أصلا في السجون كعقوبة لهم على مخالفة القانون!
المطالبة بتطبيق القانون لا تعني أن تتجاوز الدولة البوليسية على حدود الدولة المدنية ودولة المؤسسات، فمن يخالف القانونَ عليه أن يتحملَ مسؤولية فعله، شريطة أن يكون تطبيقُ القانونِ وملاحقةُ المخالفين ملتزما باحترام حقوق الإنسان، وحقه بالدفاع عن نفسه أمام الهيئات المختصة.
حمايةُ المجتمع من الراديكالية غايةٌ وهدفٌ، خصوصا والأردن يخوض معركَته ضد داعش وأخواتها، ويسعى لمحاصرة المتطرفين وتقويض وجودهم وحسر مساحتهم. لكن تحقيقَ هذا الهدف لا ينسجم أبداً مع بعض الممارسات والنهج المتّبع في حصار الفكر المتطرف أو علاج من يبتلى به، فالمعالجة القائمة، بلا أدنى شك، تعظم مساحات انتشار هذا الفكر.
اليوم في السجون بعض الناشطين في الحراك، وبعض المزاعم وادعاءات تشير إلى أنهم يتعرضون لبعض الانتهاكات، وذلك يخالف المعادلة الأردنية التي تقوم على احترام حقوق الإنسان.
وثمة مئات من المتهمين بالترويج أو الانتساب للفكر المتطرف، والحل الأمني معهم لا يكفي لحسر حجم المشكلة أو تحصين المجتمع من هذا الفكر المريض، بل نحتاج إلى استراتيجية حقيقية، وتفعيل دور كل الفئات المعنية ومنها وحدة مكافحة التطرف التي يفترض أنها موجودة في وزارة الثقافة، ووزارات الأوقاف والتربية والتعليم العالي ومؤسسات المجتمع المدني، والمدارس والجامعات والمساجد وغيرها لبناء ثقافةٍ تحصّنُ المجتمَعَ.
لمحاصرةِ الراديكاليةِ والشعورِ بالظلم الذي يتولد نتيجة بعض الممارسات، علينا تكريس التوازن بين تطبيق القانون على المخالفين وحفظ كرامتهم، كما يتطلب رؤيةً إصلاحيةً تتمسك بصورة ومشروع الأردن كدولة مدنية تؤمن بالقانون، وتلجأ للمحاكم العسكرية، فقط، بحسب النص الدستوري.
اليومَ ثمةَ ظروفٌ كثيرة؛ محلية وخارجية، تأتي بكثيرٍ من الضغوط التي تدفعُ، ربما، للضغطِ على تحقيقِ مبدأ التوازن بين الأمنِ والحرياتِ العامة، وهذه قادرةٌ أن تعطيَ الذرائعَ والمبرراتِ للانقضاضِ على حقّ التعبير، لكنها في الكفةِ الأُخرى وصفةٌ فاشلةٌ في خطوات المملكة لتحقيق دولة المدنية والقانون، وكذلك بيئة خصبة لتغذية الفكر المتطرف.
دعونا نتفقُ أن مِن حقِّ الناسِ أن تعبّر عن رأيها، شريطةَ ألاّ تخرجَ عن الحدود التي يكفلها الدستورُ والمعاييرُ الدوليةُ، وأن نتفقَ أيضا على أن مساءلةَ من يخالف ممكنةٌ قضائياً ومشروعةٌ وفقَ هذهِ المعاييرِ. عندَ هذا نحققُ مبدأَ التوازنِ الصحيِ بينَ حقِّ التعبيرِ وتطبيقِ القانونِ بدونِ إجحافٍ، وبينَ الأخيرِ وحفظِ كراماتِ الناسِ.
جمانة غنيمات