السياسة كانت الحرفة الأسمى للنخبة. يمارسها الأفراد الأكثر ذكاء وحكمة ودهاء. في اليونان القديم ومختلف الحضارات الإنسانية تنسب إنجازات الأمم لقادتها وساستها فهم كالرأس بالنسبة للجسد. يقيمون الأوضاع ويرتبون الأولويات ويتخذون القرارات الأسلم. في عالم اليوم لم تعد كما كانت عليه في الحقب التاريخية السالفة.
اليوم أصبحت السياسة والعمل فيها عملا يستهوي الأشخاص من خلفيات علمية وعرقية واقتصادية ومهنية مختلفة يمكن أن يتحول التاجر والممثل أو المقاول وسائق الشاحنة والسمسار إلى سياسي بين يوم وليلة. في كل أرجاء العالم هناك ملاكمون وجنود وتجار ورياضيون ومزارعون وأصحاب أعمال وأثرياء ممن تحولوا للعمل في السياسة.
بعض ممن التحقوا بميدان السياسة أبدعوا في قيادة الأحزاب والوصول إلى مواقع صناعة القرار والبعض تسببوا لبلدانهم وشعوبهم بكوارث أعاقت مسيرتها وبددت مواردها في حين اكتفى البعض بلعب أدوار اسمية عديمة الفائدة والتأثير من أجل أن تتحق لهم الشهرة وحماية مصالح أسرهم الاقتصادية فأصبحوا أدوات في يد أصحاب التأثير أو رجال المال والقوى التي يمكن أن تناصرهم فلا حس بالمسؤولية ولا فهم لرسالة السياسي ولا أطر أخلاقية توجه وتحكم مسيرة وأداء من أغرتهم السلطة التي تأتي مع الأدوار الجديدة.
في بلادنا كان العمل في الدولة وتولي المواقع الرئيسية في الحكومة والمجالس التشريعية مقتصرا على العائلات التي نالت قدرا مناسبا من الثروة والجاه والتعليم وكان هؤلاء الأفراد يهيئون لهذه المواقع والأدوار من خلال التعليم والتدريب المكثف في المؤسسات التعليمية والإعداد والتأهيل الذي يديره الأهالي لهم بطريقة غير مباشرة.
مع منتصف ثمانينيات القرن الماضي وتطبيقا لسياسة انفتاح الدولة على الشباب والمعارضة دخل إلى الميدان التشريعي والسياسي وصفوف النخبة المئات من الأعضاء الجدد. الكثير من القادمين الجدد لا يملكون المعرفة والخبرة في إدارة الشأن العام أو طريقة تنسيق وعمل السلطات، الأمر الذي دفعهم إلى البحث عمن يسندهم أو يرشدهم لكيفية المشاركة ولعب الأدوار الجديدة.
مع مرور الزمن وتنامي حاجة الساسة والمشرعين الجدد ظهرت طبقة من الخبراء ورجال الأمن والإعلام تتولى مساعدة النواب والوزراء والمدراء الجدد على توظيف إمكاناتهم في خدمة المجتمع بأقل قدر من الأخطاء. العلاقة الجديدة بين الساسة الجدد والبيرقراطيين في المؤسسات المعنية ولدت العديد من الاصطلاحات التي تلخص التوجيهات الضرورية لممارسة المهام.
اصطلاح الضوء الأخضر أصبح يعني أن بإمكان السياسي أو النائب أن يتحدث في الموضوع أو يجتهد ويقترح وينفذ. في حين تستخدم عبارة الخط الأحمر للإشارة إلى ضرورة التوقف وربما الابتعاد عن البحث أو السؤال أو الملاحقة للموضوع الذي يحاول السياسي أو النائب العمل على كشفه أو فهمه.
السؤال الأهم يتعلق بكيفية التصنيف للموضوعات والقضايا وتحديد المؤهلة للضوء الأخضر والواقعة ما وراء الخط الأحمر منها. وجود هذه المفردات في ثقافتنا السياسية والدلالات التي تحملها مؤشرات واضحة على أن القوى الفاعلة والمؤثرة في إحداث التغيير أو منع حدوثه قوى غير ظاهرة، وأن اللاعبين على الساحة لا يملكون من الأمر شيئا.
في مواسم الانتخابات البرلمانية والبلدية يزعم الكثير ممن يرشحون أنفسهم بأنهم حصلوا على الضوء الأخضر للترشح ويذهب البعض باتجاه خلق هذا الانطباع وترويجه بين الناخبين في محاولة لكسب أصوات من لم يقرروا بعد على اعتبار أن في ذلك تشجيعا لهم لحسم حالة التردد ولاختيار المرشح الحائز على الضوء الأخضر.
على الجانب الآخر يستخدم مصطلح الخط الأحمر للإشارة إلى الأشياء التي يصعب تغييرها والمواقف التي يحذر انتقادها والشخصيات التي لا يسمح لأحد المساس بها.
في السياسة التي عرفت بأنها فن الممكن لم يعد بمقدور أي سياسي أن يعمل شيئا ما لم ير الضوء الأخضر أو يظهر له الخط الأحمر.
د. صبري الربيحات