لا يسأل الناس في العادة عمّا أجبر شهداء المسجدين، والملايين في بقاع العالم، أن يغادروا أوطانهم ليكونوا رعايا أو أقليّات في بلاد تتوفر فيها لقمة عيش ورأي حر.
وفي تلك البلاد، في العالم كله، يمارس المسلمون حياتهم، بناةً ومعلمين ومهندسين، بل ويُمنحون حقوق مواطنة كاملة ومنهم من أصبح نائبا وسياسيا وعمدة مدينة، في مجتمع مبني على السلام ودعوات المحبة والوئام.
لكن السؤال البعيد، هو عن الأسباب التي دفعتهم للخروج من بلادهم ليعيشوا أقليات ويتلقون الكراهية والعداء.
لا شيء سوى ظلمات من أنواع أخرى اعترت حياتهم في بلادهم وأوطانهم، تصدّرها القمع والدكتاتورية والفساد وضيق العيش وقله الفرص، ولربما هذا ما ضاعف من نظرة العالم الدونية لهم، بوصفهم نماذج لشعوب مستضعفة لا تتكىء على دول قوية.
واذا ما تعالت صيحات الإدانة والإستنكار، فلتُصب كذلك، أصنام دول العالم الثالث، أولئك الذين رضوا بامتهان كرامة العربي والمسلم، في بلده وخارجها، فاستكان الناس لحكم الفرد الذي يحلف برأس أبيه، أنه سيستمر حاكما للأبد، ولو حملوه على عربة مقعد أو استنطقوه أو استنسخوه.
نسوا زمننا القوي الجميل في الأندلس وغيرها، يوم كان ملك انجلترا يستأذن خليفة المسلمين في الأندلس في تعلّم الفتية الإنجليز العلوم والطب في مدارسها الفسيحة، ونسوا أيام الفتح يوم تهادى عمر بن الخطّاب يتبادل وغلامه راحلة الطريق، ليأخذ مفاتيح القدس، نسوا كل هذا، وأعادوا تصنيف الناس لسادة وعبيد، أئمة ومأمومين.
اليوم، نرى نتائج اللامبالاة، ربما المقصودة، والتراخي. لقد دُمّر العراق من قبل ساسه العالم الاول بحثا عن اكذوبه أسلحة الدمار الشامل والتي يعرف العالم كلها أنها لم تكن موجودة، ودمّرت سوريا بفصائل حرب اعترفوا علنا باستحداثها لخلق الدمار والفوضى ولمسح الدين والتاريخ، دون كلمة استنكار ودون فعل واحد. لقد بلعنا الطعم وتركنا المسرح للطغاة ليصنعوا المشاهد.
بين يدي حادث نيوزلندا المقيت، نقرأ أن الإسلام في كل مراحل دعوته، قد نهض على قواعد الإنسانية السمحة، ودعا للرحمة وحفظ الدماء واتخذ الإقناع والحجة سُبلاً لنشرها، وفي سيرة النبي محمد عليه السلام، وفي أحاديثه الصحيحة شواهد ووقفات لا تقبل طعناً ولا نقدا.
وكذا، احتوت آيات القرآن الكريم، كتاب الله جل وعلا، مبادىء أساسية، مثل قوله سبحانه (وما أرسلناك إلّا رحمة للعالمين) و (إن الله يأمر بالعدل والإحسان).
في كل جريمة ترتكب كثمرة للتحريض ضد الإسلام وضد المسلمين، يسوق العقلاء المعتدلون حججا محكومة بالمنطق، تدرأ عن الدين تهم القتل والإرهاب وتفرض على المتلقي المعتدل، القبول بها، لكنها تجد كذلك، حواضن دافئة في عقول تناسلت فيها العنصرية والحقد والبغضاء والكراهية.
بالأمس القريب، وفي رحاب مساجد الله، ارتكبت جريمة تنكّرت لمبادىء الإنسانية ولقواعد الحياة، تم تغليفها عن قصد وعن دونه، بإحالات دينية وعنصرية وتاريخية، في مسعىً قاتل يستهدف كلمة السواء، التي شكّلت حالةً من نماذج العيش المشترك المستند على حريّة المعتقد وإلغاء تصنيفات العرق واللغة واللون.
لم يكن الإسلام يوما إلّا دين الحجة والمنطق والإقناع. وإذا ما استند أولئك الذين يلصقون به تهم الإرهاب والقتل إلى ما يفعله خوارج هذا العصر من قتل باسم الإسلام وتعذيب وإرهاب، فإنما نرد حجتهم الواهنة وكيدهم وفهمهم الناقص المعتل، إلى أصول الدين القائم على الرحمة والسماحة والاعتدال.
في ثنايا الغضب على الجريمة النكراء، نرفع الصوت عالياً بأن خطاب الكراهية يجب أن يجابه من أولئك المعتدلين الذين ترتفع أصواتهم على جريمة المسجدين بالإدانة والإستنكار، وأن العداء الذي يبنيه الهمج على قواعد الدين والعرق يجب أن يحارب وتجتث جذوره التي لا تجد غرسها سوى في العقول النتنة المريضة المقرفة.
في ثنايا الغضب على الجريمة، على أتباع الأديان كلها، النهوض بواجب تجفيف منابع التحريض، ومواصلة الكفاح نحو الوئام وحرية المعتقد والدين، قواعد الإنسانية العظيمة التي تجمعنا في العيش على هذا الكون الفسيح.
د. نضال القطامين