اغتيال «البطش» في أقاصي شرق آسيا ليس هو الأول على قائمة التصفية الجسدية للموساد وليس هو الأخير، فالكيان «الإسرائيلي» ولد من رحم الإرهاب والعنف واستخدام القوة المفرطة في إحداث المجازر المروعة من أجل إخافة المواطنين ودفعهم إلى الخوف والشعور بالرعب ومن ثم الفرار.
مسار ترويع الآمنين ليس هو المرتكز الوحيد للاستراتيجية الصهيونية بتفريغ فلسطين من أهلها، بل يتبعه مرتكز آخر وهو جلب اليهود الصهاينة إلى فلسطين وتسهيل توطينهم، من خلال الاستيلاء على الأرض الفلسطينية بكل السبل والوسائل الممكنة، وهي استراتيجية دائمة ومستمرة ومتفق عليها بين جميع الأحزاب والأطراف الإسرائيلية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار إذا وجد ما يسمى يساراً لديهم ويتبع ذلك تسهيل توطين المهجرين الفلسطينيين في مواطن لجوئهم.
لكن المسار الاستراتيجي الأشد خطورة هو المتمثل بخط الاغتيالات والتصفية الجسدية وفق قائمة منتقاة بعناية من قبل الموساد والأجهزة الاستخبارية الدولية المتعاونة مع الكيان الصهيوني بحق القادة السياسيين والعسكريين المؤثرين على صعيد القضية الفلسطينية، ولا تقتصر قائمة التصفية والاغتيال على الناشطين والسياسيين والعسكريين، وإنما يرصدون العقول والأدمغة المؤثرة على الصعد الأخرى العلمية والنقابية، وخاصة أولئك الذين يملكون المؤهلات العلمية والتخصصات النادرة التي تشكل احدى أوراق القوة لدى الشعب الفلسطيني.
وتتعدى دائرة الرصد والمتابعة إلى الشخصيات العربية والإسلامية المميزة في مختلف الحقول العلمية والمعرفية، كما حدث مع بعض علماء الذرة المصريين والعراقيين وغيرهم، حيث إن الصهاينة يعدون كل الساحة العربية والإسلامية هي ساحة عداء لهم وتحمل بذور التهديد لمستقبل دولتهم وامبراطوريتهم الموعودة.
يستمر الكيان الصهيوني بتنفيذ قائمة الاغتيالات كلما سنحت له الفرصة، ومن الجدير بالذكر أن قرار التصفية لا يدخل حيز التنفيذ إلاّ بموافقة رئيس الحكومة شخصياً، ولكن الأمر الذي يستحق التوقف بعناية أن كل معاهدات السلام أو ما يطلق عليها كذلك لا تقوى على وقف قرارات التصفية، ما يؤدي إلى نتيجة قاطعة مفادها أن معاهدات السلام والتسوية التي يعقدها الكيان ليست جادة أولاً، ولا تشعر الصهاينة بالأمان مما يجعل رئيس الحكومة الإسرائيلية يوقع على قرارات التصفية دون أن يحس بوخزة الضمير من الشعور بضرورة احترام العهود والمواثيق التي لم يجف حبرها بعد، ومثال ذلك ما حدث من محاولة الاغتيال لخالد مشعل على الأرض الأردنية بعد توقيع معاهدة وادي عربة، ونفذ الاسرائيليون عدة عمليات على الأرض المصرية ودول عربية أخرى.
استمرار الاغتيالات الصهيونية يعني بكل يقين أن المعركة مع الغزاة الصهاينة مستمرة وطويلة الأمد، لأنهم يعتقدون اعتقاداً جازماً بضرورة تفريغ الأمة العربية والإسلامية من العقول والأدمغة المؤثرة، وضرورة تجريد الأمة من ورقة العلم والمعرفة القوية التي تشكل عماد نهضتهم وإعادة بناء قوتهم، واليهود الصهاينة يرون أن امبراطوريتهم لا تقوم ولا يكتب لها النجاح إلاّ على أنقاض العرب وضعفهم وتفككهم وتفريغهم من مصادر قوتهم، ولذلك يمكننا تفسير ما يجري من أحداث مؤلمة في كثير من الأقطار العربية والإسلامية.
لكن المشكلة الأعظم والأشد خطورة من كل الأخطار السابقة يتمثل فينا نحن العرب والمسلمين من خلال عدم تفهمنا للخطر أولاً، ومن خلال تدمير أنفسنا بأنفسنا عبر الاستثمار في الاختلاف الفكري والديني والمذهبي والعرقي، ومن خلال استنبات بذور النزاع الدموي بين مكونات الأمة الواحدة، عبر بعض الأنظمة والحكومات التي تعمل جاهدة على تفريغ الأمة من طاقاتها وكفاءاتها وأحرارها، والحيلولة دون امتلاك الشعوب لعوامل النهوض وبناء القوة الذاتية.
د. رحيل غرايبة