لا أظن أن أحدا في الأردن، مهما كان تعليمه وخلفيته الثقافية، لا يعرف المقصود بمصطلح “خارج التغطية”. فالجميع مشترك بخدمة الهواتف النقالة، وما من أحد إلا وعاش تجربة انقطاع الخدمة وتوقفها. في بدايات انتشار الخدمات الهاتفية، لم تكن كل المناطق تصلح لإرسال واستقبال الموجات، فبعضها كان خارج التغطية.
بالرغم من أن الاصطلاح أصبح لصيقا بالاتصالات ومرتبطا بمدى توفر وغياب محطات وأبراج التقوية، إلا أن الكثير منا يستعير المفهوم ويستخدمه للإشارة إلى غياب الخدمات والتسهيلات والحضور التي يفترض أن يشعر بوجودها الناس في مناطقهم ومجتمعاتهم المحلية.
اليوم، وبالرغم من الضجيج الصادر عن العديد من المؤسسات وبرامج دعايتها وترويجها وموازناتها ومبانيها الضخمة، إلا أن خدماتها لا تصل للكثير من المناطق ولا يوجد أسس لتوزيع الخدمات والتواصل مع المحتاجين لها. اصطلاح “خارج التغطية” يعبر تعبيرا صادقا عن الطريقة التي ينظر فيها من يديرون هذه المؤسسات للواقع.
قبل أيام، توقفت عند مبنى إحدى المؤسسات الخدمية التي تعاقب على قيادتها أكثر من ستين وزيرا، لا لشيء بل لأضع المسؤول في صورة بعض ممارسات منسوبيها. وبعد وقفة تأمل أمام الجدار الذي يحمل الصور لعشرات الوزراء الذين تعاقبوا على إدارة هذه المؤسسة العريقة، دلفت الى مكتب أحد رجالات المؤسسة الذي بدا منشغلا في أكوام الملفات، وما كدت أحرك شفتيّ حتى بدأ باستعراض القرارات التي قامت مؤسسته باتخاذها في محاولة للإعلان عن أن المؤسسة أنهت خططها الخدمية. تكتيك قطع الطريق أو استخدام حجج الخطط والبرامج أسلوب يلجأ له الكثير من العاملين في المواقع العامة لكي يتجنبوا الضغوط ويغلقوا بوابة الطلبات والوعود، لكن ذلك قد يحجب عنهم الكثير من الفرص لمعرفة ما يدور في الميدان وشعور الناس ومطالبهم التي قد لا تحتاج الى كلف وموازنات.
الإجابات الاستباقية المسكتة تنزع الدفء من العلاقة التي كانت سائدة بين المواطن والمسؤول وتحول المؤسسات الى مرافق تصلح لأن تدار بالرد الآلي. ليس من عادتي زيارة المؤسسات والدخول الى مكاتب المسؤولين، لكنني لم أشعر يوما بالغربة والأسى اللذين شعرت بهما في ذلك اليوم، فقد غادرت المبنى وأنا أتأسى على ما آلت اليه البلاد بعد أن اقتنع صناع القرار بالدفع بمجموعة من الشباب ممن لا يملكون أبسط قواعد التواصل، فقد تم إنضاجهم وتمريرهم عبر خطوط الترقيات الاستثنائية، وجرى الدفع بهم الى مواقع المسؤولية على عجل تحت شعارات التحديث والعصرنة والأتمتة وغيرها من الشعارات من دون الالتفات الى مدى إدراكهم أهمية أوجاع الناس وهمومهم.
في المرحلة التي يشكو فيها الجميع من اتساع الهوة بين المواطن والدولة وتتنامى فيها الحاجة الى بناء الثقة، تتنامى الحاجة الى إعادة مراجعة المواصفات التي ينبغي توفرها فيمن يتولون خدمة الناس والقيام بمهام الوظائف العامة. على الحكومات والجهات التي تتولى الرصد والاستكشاف والترشيح للكفاءات التي ستحل في المواقع العامة، أن تحسن الاختيار وتتأكد أن من يجلسون في مكاتب خدمات الناس أشخاص يتحلون بالصدق والنزاهة وحب العمل ولا يمنون على المجتمع والموقع بإشغالهم أدوارا يتمنى الآلاف من أبناء البلاد الأكفياء أن يحظوا بشرف إشغالها.
استمرار استجلاب أشخاص لا يتحلون بأخلاق وقيم ومهارات الموظف العام، سيجعل الحكومة وكوادرها والجمهور خارج التغطية.
د. صبري الربيحات