مرة أخرى، نأى الأردن بنفسه عن الاصطفافات الحادة حيال قضايا إشكالية في المنطقة. فبينما توالت ردود الفعل المرحبة والمعارضة لقرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران، فضلت الحكومة الأردنية التركيز على ضرورة إخلاء المنطقة كاملة من أسلحة الدمار الشامل. كما تضمن بيانها المتوازن دعوة لإيران للتجاوب مع المبادرات الدولية والأميركية لأجل تحقيق هذه الغاية، والابتعاد عن كل ما من شأنه توتير الأوضاع في المنطقة.
وازن موقف الحكومة بين اعتبارات عدة تنطلق في الأساس من جملة المصالح الأردنية. فالأردن كان قد رحب بالاتفاق النووي مع إيران عند توقيعه قبل ثلاث سنوات، ولم يكن من اللائق أن ينقلب على موقفه هذا بخلاف دول عربية عارضت الاتفاق منذ البداية، وكان من الطبيعي أن ترحب بإلغائه أخيرا.
لا يمكن إنكار الضغوط التي مورست على الحكومة للانقلاب على موقفها تماما، لكنها ليست المرة الأولى التي يتصرف فيها أصحاب القرار بحكمة وتروّ، فعندما سارعت دول لقطع علاقاتها مع إيران، استجاب الأردن بشكل جزئي واكتفى بسحب سفيره بعد أسابيع. وتكرر الأمر في الأزمة الخليجية، حين تعرض لضغوط لقطع علاقاته مع قطر، لكنه اختار تخفيض مستوى التمثيل على نحو لا يضر بالمصالح الأردنية.
وفي مقابل دعم الحكومة لسياسة واشنطن الصارمة تجاه الدول التي تسعى لتطوير برامج التسلح النووي، وضعت في الاعتبار العلاقة الوثيقة مع دول الاتحاد الأوروبي التي عارضت الخطوة الأميركية. المعروف أن هذه الدول وقفت إلى جانب العرب في رفضهم قرار الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ورفضت نقل سفارتها أسوة بواشنطن. والاتحاد الأوروبي شريك اقتصادي فعال للأردن، ويقدم دعما سنويا للاقتصاد الأردني.
ليس بمقدور الأردن أن يتجاهل حلفاءه الأوروبيين، وهو في الوقت نفسه لا يريد المغامرة بتوتير العلاقات مع الحليف الأميركي.
إنها معادلة صعبة للغاية، وقد ينطوي التعامل معها على قدر من المجازفة. وفي بعض الأحيان، يجد الأردن نفسه مضطرا للتراجع عن مواقف متوازنة اتخذها لتجنب خسائر تضر بالمصلحة العامة.
لا يقلل الأردن من خطورة التهديد الإيراني على المنطقة، ونزعتها التوسعية والتدخل في شؤون دول عربية وخليجية، لكن مثلما أشار بيان الحكومة، لا سبيل غير الحوار لتسوية الخلافات، والتفاهم لبناء علاقات جوار تحترم مصالح جميع الأطراف.
إن الأزمات العربية وعدم قدرة النظام العربي الرسمي على حلها، يوفران لإيران وقوى أخرى دولية وإقليمية فرصة للتدخل في الشؤون العربية، فمثلما توسع إيران من نطاق نفوذها في المنطقة، تفعل تركيا الشيء ذاته؛ فهي اليوم تسيطر على مساحات واسعة من الأراضي السورية، ولا تتوانى عن التدخل في العراق.
وهناك اليوم وجود أجنبي لأكثر من عشر دول على أراضي دول عربية، وهو ما قد يؤدي إلى مواجهة عسكرية واسعة، تتبدى نذرها في الصدام الأخير بين إيران وإسرائيل في سورية، والتحذيرات الأميركية لطهران بعواقب وخيمة إذا لم ترضخ لطلب واشنطن التفاوض من جديد على شروط الاتفاق النووي.
لا تستطيع دولة صغيرة مثل الأردن أن تزج بنفسها في مواجهة قوى كبرى، وإلا صارت وقودا لحربهم كما الحال مع دول عربية سقطت في فخ الفشل المزمن.
فهد الخيطان