مُبادَرة العاهِل الأُردني الملك عبد الله الثاني بإقالة حُكومَة السيد هاني الملقي التي أدَّت سِياساتها الاقتصاديّة إلى استفزاز المُواطِن الأُردني، ونُزول عَشرات الآلاف مِن أبنائِه إلى الشَّارِع، والميادين العامّة احتجاجًا على قانون ضريبة الدَّخل، ورَفع أسعار السِّلع الضروريّة، تُشَكِّل خُطوَةً حضاريّةً تَستَحِق الاهتمام وتَعْكِس حِرْصًا على الاستماع للرأي العام والتَّجاوب مع مطالِبِه المَشروعة، والحِفاظ على أمن البَلد واستقرارِه.
الأُردن مُستَهدف من قِبَل جِهاتٍ عديدة، عربيّة وأجنبيّة، لأنّه حاول اتِّباع سِياساتٍ مَسؤولةٍ في العَديد من الملفّات السَّاخِنة في المِنطَقة، وخاصَّةُ ملف تهويد مدينة القُدس ومُقدَّساتِها المسيحيّة والإسلاميّة، وتَحويلها إلى عاصمةٍ أبديّةٍ لدَولة الاحتلال الإسرائيلي، ورَفْضِه لصَفقة القرن التي تُشَكِّل تصفية للقضيّة الفِلسطينيّة، وطَمْسًا لحق العَودة، وكُل الثَّوابِت الأُخرى.
لا نُجادِل مُطلقًا بأنّ هُناك فَسادًا، وخَطايا كُبرى ارتكبتها مُعظَم الحُكومات السَّابِقة، ولكن وَقف المُساعدات الماليّة عن الأُردن من قِبَل دول خليجيّة لتَجويعِه وتركيع قيادته وشَعبه جاء تمهيدًا مُتعمَّدًا لتمرير هذهِ الصَّفقة المُريبة ومَشروع الوَطن البديل، ولذلك لا بُد من الوَعي بهذه المُخَطَّطات، والوُقوف شَعبًا وقِيادةً صَفًّا واحِدًا في مُواجَهتِها.
***
الأُردن يُعاقَب لأنّه رَفض التَّورُّط في حرب اليمن، وإرسال قُوّات للمُشارَكة في “عاصفة الحزم”، وفَضَّل البَقاء بعيدًا عن كُل هذه المُخطَّطات التي تَصُب في مُحصِّلة تفتيت الأُمّة العَربيّة، واستنزاف ثَرواتِها، ودِماء أبنائها، ولهذا تَدفَّقت مِئات المِليارات إلى أُناس لا يستحقونها، وجَرى حِرمانه من فُتاتِها تَعَمُّدًا، وبأوامِر أمريكيّة.
تعيين الدكتور عمر الرزاز رَئيسًا جديدًا للوزراء هذا الرَّجُل الذي يَمْلُك رصيدًا كبيرًا لدى الشَّباب الأُردني بسبب نزاهته وإنجازاتِه التي تُشهَد له في مُعظَم المَهام التي تولّاها، وآخرها وزارة التربية والتعليم، يُشَكِّل نَقلةً نوعيّةً مُهِمَّةً على طريق الإصلاح وتَصويب البَوصلة لتَحقيق المَطالِب الشَّعبيّة المَشروعة والسَّير نَحو مُستَقبلٍ واعِد بالأَمن والاستقرار.
الشَّارع الأُردني الذي أنهَكته الضَّرائِب، وارتفاع مَنسوب الغلاء، باتَ في حاجَةٍ ماسَّةٍ إلى حُكومةٍ تتجاوَب مع آمالِه، وتَطلُّعاتِه، وتتفهَّم مطالبه، ويَعتقِد الكثيرون، ونحن من بينهم، أن الحُكومة الجَديدة قد تُحَقِّق لهُ الكثير من طُموحاتِه ومطالِبه هذه إذا ما أُعطِيت لها الفُرصة، والصَّلاحيّات اللازِمة والضَّروريّة لإنجاز برامِجها في هذا الإطار.
القِيادة الأُردنيّة التي لَبَّت مطالب مُواطِنيها وأقالت حكومة، تَغوَّلت في تَحميلِه مسؤوليّة سِياساتِها الجِبائيّة المُرهِقة، تَعرِف، وتَعترِف قَطعًا بِمَواطِن الخَلل، ولكن نرى أنّ من واجِبنا تقديم بعض النَّصائِح، أبرزها حَتميّة الاتِّجاه شَرقًا وشَمالاً، وتًعزيز الاعتماد على الذَّات في الوَقتِ نَفسِه، بعد أن خَذَلها أشقاء راهَنت عليهم حُكومات سابِقة طَويلاً، وخًذلوها، بل تآمر بعضهم عليها، ونحن نَتحدَّث هُنا عن الانفتاح على العِراق وسورية وتركيا وإيران على وَجه التَّحديد.
فإذا كان حجم التًّبادُل التِّجاري بين دولة الإمارات العربيّة وإيران يَصِل إلى 8.7 مليار دولار سَنويًّا، وتُشَكِّل الصَّادِرات الإماراتيّة 18 بالمِئة من حجم الوارِدات الإيرانيّة، وتتطلَّع تركيا إلى رَفع حجم التَّبادُل التِّجاري مع إيران إلى 30 مليار دولار سَنويًّا، أي ثلاثة أضعاف حجمه حاليًّا، فلماذا يًلوم البعض الأُردن إذا ما حاول الانفتاح على إيران أو تركيا؟
نُضيف نُقطةً أُخرى مُهِمَّة، وهي أنّ تَوريط الأُردن في الحَرب السوريّة أدَّى إلى نتائِج سلبيّة أبرزها تَدفُّق أكثر من مليون ونِصف المَليون سوري إلى أراضيه، وإغلاق حُدود كان يَدُر فتحها حوالي 400 مليون دولار سَنويًّا من جرّاء الرسوم وغيرها، فلماذا لا تَبْذُل السُّلطات الأردنيّة كُل الجُهود المُمكِنة لإعادة فَتح هذه الحُدود، وبِما يُؤدِّي إلى تَدفُّق البَضائِع في الاتِّجاهين أوّلاً، وعودة عَشرات الآلاف من اللاجئين ثانِيًا، خاصَّةً أن مرحلة إعادة الإعمار باتت وَشيكةً، والشَّرِكات الأُردنيّة يَجِب أن تَحرِص على انتزاع حِصَّتها كامِلَةً فيها.
***
مَرَّةً أُخرى نسأل، ومِن مُنطَلقاتٍ أُردنيّةٍ بَحتةٍ، عن الإسباب التي تَحول دُون السًّماح للإيرانيين بِزيارَة المَقامات الدينيّة الشيعيّة في الكرك؟ فإذا كان هُناك 300 ألف حاج يذهبون إلى مكّة سَنويًّا، علاوةً على مِئات الآلاف مِن المُعتَمِرين، يُنفِقون حواليّ نِصف مليار دولار سَنويًّا، فلم لا يُسمَح لهذا العدد أو ضِعفِه بِزيارَة الأُردن؟ وما العَيب في الانفتاح الأُردني اقتصاديًّا على تُركيا، وإعادة إحياء اتفاقيّات التِّجارة الحُرّة بين البَلدين؟
الأُردن كان دائمًا عُنوانًا للاستقرار في المِنطَقة، ولم يُغلِق حُدوده مُطلقًا في وَجه كُل إنسانٍ مَظلوم يَلجَأ إليه بَحْثًا عن الأمن والعَيش الكريم، سواء جاء من العِراق أو فِلسطين أو سورية أو اليمن، وضَرب المَثل في التَّعايُش بين الأديان والمذاهِب والأعراق، دُون أي تَفرِقة، ولذلك يَستَحِق مِنّا كُل الدَّعم والمُسانَدة للخُروج من هذهِ الأزمة، وكُل الأزَمات لا قَدَّر الله في المُستًقبل، وكاتِب هذهِ السُّطور لا يُمكِن أن يَنْسَى فَضل الأُردن عليه، وعلى مِئات الآلاف من أمثالِه.. وهَذهِ قِصَّةٌ أُخرَى.
عبد الباري عطوان