+
أأ
-

اقتصاد المسنين في تركيا واحتياجات سوق الخدمات الصحية

{title}

إسطنبول– شهدت تركيا واحدة من أسرع موجات التحول الديمغرافي في تاريخها الحديث. قال مختصون إن عدد كبار السن تجاوز 9 ملايين شخص خلال سنوات قليلة، مع ارتفاع لافت تجاوز 20% في 5 سنوات. وأضافوا أن هذه الزيادة أدت إلى ارتفاع حصتهم إلى نحو 11% من إجمالي السكان، وسط توقعات بتجاوزها 16% بحلول 2040. يواجه النظامان الصحي والاجتماعي تحديات متزايدة جراء هذا التحول، إذ يتنامى الطلب على خدمات الرعاية والتمريض بمعدلات تفوق القدرات الحالية.

كشفت تقديرات مختصين أن حجم الطلب على رعاية المسنين قد يتضاعف خلال العقدين المقبلين. وأشاروا إلى أن البنية المؤسسية تعاني من نقص كبير في الكوادر المؤهلة وتواضع الطاقة الاستيعابية للمراكز القائمة، مما يهدد قدرة البلاد على مواكبة متطلبات مجتمع يتقدم في العمر بوتيرة متسارعة.

فجوة متصاعدة

تشهد خدمات رعاية المسنين في تركيا فجوة واسعة بين حجم الطلب والقدرة الفعلية على الاستيعاب. إذ لا يتجاوز عدد دور الرعاية في البلاد 450 إلى 500 مؤسسة تستقبل نحو 30 ألف مسن فقط. وتعتبر هذه الطاقة بعيدة تمامًا عن تلبية احتياجات مجتمع يتجه سريعا نحو الشيخوخة.

قالت عائشة بيرجون، المسؤولة في قطاع دور الرعاية، إن السوق التركي "لا يزال في مراحله الأولى". وأكدت أن الفجوة بين العرض والطلب مرشحة للاتساع مع الارتفاع السريع في أعداد كبار السن. وأشارت إلى أنه مع بلوغ نسبة من تزيد أعمارهم على 65 عامًا 16% بحلول 2040، فإن الطلب على خدمات الرعاية مرشح للتضاعف مقارنة بالوضع الحالي.

أوضحت بيرجون أن نقص الكوادر المؤهلة يشكل اليوم "التحدي الأكثر إلحاحاً" أمام قدرة القطاع على التوسع. كما حذرت من أن الثغرات التنظيمية لا تقل تأثيراً عن نقص الكوادر، معتبرة أن غياب خطط واضحة لتوسعة مؤسسات الرعاية وضعف الرقابة على معايير الجودة يحدان من قدرة القطاع على مواكبة التحولات الديمغرافية.

اقتصاد فضي

تتقدم فرص الاستثمار وتقنيات الرعاية إلى صدارة النقاش حول اقتصاد المسنين في تركيا. قال وزير الخزانة والمالية محمد شيمشك إن الحكومة وقطاع الأعمال يسعيان إلى تحويل التحولات الديمغرافية المتسارعة إلى محركات نمو جديدة. وأكد في قمة الاقتصاد العالمي مطلع نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، طرح رؤية للتوسع في قطاعات الرعاية المتقدمة تشمل مراكز طب الشيخوخة وإعادة التأهيل.

أوضح شيمشك أن هذه المجالات تمثل البنية الأساسية لما يعرف عالمياً بـ"الاقتصاد الفضي". وتوقع أن يتجاوز قيمة هذا السوق 8.5 تريليونات دولار بحلول 2032، مما يجعل تركيا مرشحة لجذب استثمارات محلية وأجنبية واسعة إذا ما أحسنت استغلال هذه الموجة.

في السياق ذاته، اتجه رواد الأعمال الأتراك إلى استكشاف آفاق جديدة تتجاوز الرعاية التقليدية، من خلال فكرة تحويل تركيا إلى مركز إقليمي لسياحة رعاية المسنين. وأشارت الحكومة إلى دعم مبادرات تستهدف تعزيز دور القطاع الخاص والنساء في هذا المجال، من خلال قروض مدعومة لتأسيس مراكز رعاية تلبي المعايير الدولية.

التقاليد الأسرية تحت اختبار الحداثة

لأجيال طويلة، شكلت الأسرة التركية خط الدفاع الأول في رعاية كبار السن. حيث كان الأبناء يتولون مسؤولية الوالدين داخل المنزل باعتبارها واجباً أخلاقياً وثقافياً راسخاً. وأكدت الدراسات أن نحو ربع الأسر التركية تضم فرداً واحداً على الأقل فوق 65 عاماً، بينما يعيش 1.8 مليون مسن بمفردهم، وتشكل النساء ثلاثة أرباعهم.

غير أن التحولات الاجتماعية الحديثة، من تقلص حجم الأسرة إلى ازدياد مشاركة النساء في سوق العمل، جعلت الاعتماد على الرعاية المنزلية أمراً صعباً. ووفق دراسات حديثة، تتحمل النساء العبء الأكبر من الرعاية، مما ينعكس بخسائر مالية وانخفاض في المشاركة الاقتصادية.

قد دفعت هذه الضغوط الحكومة إلى تعزيز دعمها للرعاية المنزلية، حيث رفعت وزارة الأسرة والخدمات الاجتماعية مخصصات الرعاية المنزلية إلى 10 آلاف ليرة شهرياً (نحو 240 دولاراً). كما توسعت البلديات في خدماتها من زيارات تمريضية إلى توصيل الوجبات والأدوية للمسنين في منازلهم.

تداعيات اقتصادية واجتماعية

يحذر المحلل الاقتصادي عمر أكوتش من أن تجاهل التحول الديمغرافي المتسارع قد يضع تركيا أمام تداعيات اقتصادية واجتماعية واسعة. وأشار إلى أن تراجع حجم القوة العاملة واتساع قاعدة المتقاعدين يزيد من الضغط على صناديق التقاعد، مما يهدد استدامة نظام الضمان الاجتماعي.

وقدم أكوتش مجموعة من السياسات المترابطة التي تتطلبها هذه المرحلة، بدءًا من رفع سن التقاعد تدريجياً لضمان بقاء كبار السن في سوق العمل لفترة أطول، وصولاً إلى توسيع خدمات الرعاية الصحية والاجتماعية.

كما دعا إلى خلق فرص عمل مرنة تستوعب كبار السن الراغبين في مواصلة العمل، بالتوازي مع معالجة فجوات سوق العمل عبر تحفيز توظيف الشباب ورفع الإنتاجية لتعويض الانكماش المتوقع في القوة العاملة.