قندح يكتب: البطالة، التضخم، والنمو الاقتصادي:

د.عدلي قندح العلاقة المعقدة في صلب التحديات الاقتصادية التي يواجهها الأردن، تتداخل البطالة، والتضخم، والنمو الاقتصادي في علاقة معقدة ذات أبعاد متشابكة. فرغم أن معدلات التضخم تظل ضمن نطاق السيطرة حتى في أصعب الظروف، فإن البطالة تظل معضلة ضاغطة تتفاعل بشكل ديناميكي مع مسار النمو الاقتصادي. ويمكن تحليل هذه التفاعلات من خلال منحنى فيليبس، الذي يعكس العلاقة العكسية بين معدلات البطالة والتضخم، مما يسلط الضوء على الترابط الوثيق بين هذه المتغيرات وأثر كل منها على الآخر ضمن المنظومة الاقتصادية. في عام 1958، قدم الاقتصادي النيوزيلندي ألبان ويليام فيليبس (Phillips) دراسة أظهرت علاقة عكسية بين البطالة وتضخم الأجور في المملكة المتحدة خلال الفترة من 1861 إلى 1957. تشير هذه العلاقة إلى أنه مع انخفاض البطالة، يرتفع التضخم، والعكس صحيح. ومع ذلك، أظهرت دراسات لاحقة أن هذه العلاقة قد لا تكون ثابتة على المدى الطويل، حيث يمكن أن تتغير التوقعات والتكيفات الاقتصادية، وقد تدخل الاقتصادات في حالة من الركود التضخمي (stagflation)، وهذا ما حدث في عدد من الدول المتقدمة خلال عقد السبعينيات بعد فورة ارتفاع أسعار النفط العالمية. شهد الأردن، كغيره من الدول، تأثيرات جائحة كورونا التي أدت إلى ارتفاع معدلات البطالة إلى مستويات غير مسبوقة، حيث تجاوزت 25% في عام 2020. منذ ذلك الحين، تعاقبت ثلاث حكومات على محاولة خفض هذه النسبة، ونجحت في تقليصها بمعدل يقل عن 1% سنويًا، لتصل إلى 21.4% في عام 2024. ورغم هذا التحسن الطفيف، فإن المعدل الحالي لا يزال مرتفعًا ويستدعي تدخلات أكثر فعالية. بالمقابل، يعكس استقرار معدل التضخم عند 2.2% قدرة السياسات النقدية على كبح جماح الأسعار والحفاظ على القوة الشرائية، إلا أن هذا الاستقرار لا يعني بالضرورة تحسن الأوضاع الاقتصادية بشكل شامل. فالاقتصاد الأردني لا يزال يواجه تحديات هيكلية تؤثر على معدلات التوظيف والنمو، مما يحد من استفادة المواطنين بشكل فعلي من استقرار الأسعار. علاوة على ذلك، فإن استمرار الاعتماد على الواردات، وتقلبات الأسواق العالمية، والتغيرات في أسعار الطاقة، قد تشكل عوامل ضغط مستقبلية قد تؤدي إلى إعادة تشكيل منحنى التضخم بطرق غير متوقعة، وهو ما يستدعي مزيدًا من التحوط في إدارة السياسات الاقتصادية. بحسب منحنى فيليبس، يُتوقع أن يؤدي انخفاض البطالة إلى ارتفاع التضخم نتيجة زيادة الطلب على السلع والخدمات. ومع ذلك، في الحالة الأردنية، نلاحظ استقرار معدل التضخم عند 2.2%، على الرغم من ارتفاع البطالة. وتشير بعض الدراسات لفترات مختلفة إلى عدم وجود علاقة واضحة بين البطالة والتضخم في الأردن، مما يعني أن منحنى فيليبس قد لا ينطبق بشكل مباشر على الاقتصاد الأردني. وفيما يتعلق بأسباب ارتفاع البطالة في الأردن، يمكن الحديث عن عدة مسببات، من أبرزها: النمو الاقتصادي البطيء: فقد بلغ معدل النمو 2.4% خلال الأرباع الثلاثة الأولى من عام 2024، وهو معدل يدور حول متوسطه خلال العقد ونصف العقد الأخيرين، وهو غير كافٍ لاستيعاب القوى العاملة المتزايدة. الاختلالات الهيكلية: حيث يعاني الاقتصاد من هيمنة بعض القطاعات وضعف أخرى، ما يحد من تنوع فرص العمل. نوعية الاستثمارات: فبعض الاستثمارات تخلق فرص عمل يستحوذ عليها عمالة غير أردنية، أو تكون في الغالب استثمارات كثيفة رأس المال تخلق فرص عمل غير كافية لتخفيض معدلات البطالة بشكل ملموس. التحديات التعليمية: وتعني عدم مواءمة مخرجات التعليم مع متطلبات سوق العمل، ما يؤدي إلى اتساع الفجوة بين العرض والطلب على المهارات. ولمعالجة مشكلة البطالة، يمكن تبني استراتيجيات شاملة، منها: تحفيز النمو الاقتصادي من خلال تبني سياسات مالية ونقدية تدعم القطاعات الإنتاجية وتزيد من الاستثمارات. إصلاحات هيكلية تعمل على تنويع الاقتصاد وتعزيز القطاعات ذات القيمة المضافة العالية، مثل التكنولوجيا والصناعات المتقدمة. تحسين بيئة الأعمال من خلال تقليل البيروقراطية وتوفير حوافز للمستثمرين لجذب الاستثمارات وخلق فرص عمل جديدة. تطوير التعليم والتدريب لمواءمة البرامج التعليمية مع احتياجات سوق العمل وتوفير برامج تدريبية متخصصة. تعزيز ريادة الأعمال من خلال دعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة وتوفير التمويل والتوجيه لرواد الأعمال. إن العلاقة بين البطالة، والتضخم، والنمو الاقتصادي في الأردن تعكس تشابكًا اقتصاديًا دقيقًا يتطلب سياسات متوازنة تحقق الاستقرار والتقدم المستدام. فالتحكم في معدلات التضخم دون التضحية بالنمو، ومعالجة البطالة دون تأجيج الضغوط التضخمية، يمثلان تحديات جوهرية لصناع القرار. لذا، فإن تبني سياسات نقدية ومالية مرنة، وتعزيز الاستثمار المنتج، وتطوير سوق العمل بما يواكب التحولات الاقتصادية، كلها أدوات ضرورية لتحقيق توازن مستدام بين هذه المتغيرات. كل ذلك يتطلب من وزارة المالية والبنك المركزي ووزارتي العمل والصناعة والتجارة عقد جلسات عصف ذهني للتعامل مع هذه العلاقة المعقدة والخروج بخطة استراتيجية متكاملة تساعد على الحفاظ على معدلات التضخم ضمن المستويات التي تحقق الاستقرار المالي والنقدي، ورفع معدلات النمو الاقتصادي التي تساهم بشكل واضح في خلق فرص عمل تعمل على تخفيض معدلات البطالة بشكل ملموس في فترة زمنية مقبولة. فالمعادلة ليست مجرد أرقام، بل مسار اقتصادي متكامل يحدد قدرة الأردن على تحقيق تنمية شاملة ومستدامة.