كتّاب

الأردنيون في عودتهم الميمونة

أتوقع أن يخرج الناس كل ليلة كما فعلوا منذ الأربعاء الماضي، وأتوقع أن يكون الأربعاء يوم إضراب آخر حتى لو دعا النقباء لاعتصام فقط، فالناس أصلا يعتصمون ويتظاهرون كل ليلة. هذا ليس تحريضا بل تقدير موقف. لا أغامر بأي توقعات أبعد من ذلك، وليس هناك جهة قيادية تقرر الاستمرار أو التوقف، فالمزاج العام هو الذي يقرر، ونشطاء وسائل التواصل الاجتماعي هم هيئة تنسيق افتراضية تنشأ عرضا وتباعا هنا وهناك لا تفترض نفسها قيادة، فدورها المبادرة والاقتراح وفق ما تحس به وما تلقاه من تجاوب. ولعل الأحزاب فهمت الموقف، فلم تحاول أي جهة أن تتصدر أو تفترض لنفسها دورا أو قيادة، وهو أمر سيبدو سخيفا، ناهيك عن عبء المسؤولية الذي تبحث النقابات الآن عن التخلص منه.
ما يحدث اليوم يختلف عن الربيع العربي وحتى عن احتجاجات الأشهر الماضية. المجتمع المدني الذي نتحدث عنه يتجلى بأفضل صورة الآن، والمواطنة الواعية هي في الميدان. لا أصول ولا منابت ولا جهويات ولا عشائر بل أردنيون يملؤهم حس المواطنة والانتماء والمسؤولية قرروا الدخول في مفاصلة مع حكومتهم على ما تفعله وعلى الحقوق والواجبات وقد فاض الكيل معهم بآخر ما جادت به الحكومة.
لم يسبق أن رأيت تعاطفا مع الاحتجاج والرفض يشمل كل هذه الأوساط، وقد وضعت الحكومة كل الطبقات في خندق واحد ضدها. المتهربون ضريبيا وأصحاب الدخول العالية لا يريدون القانون ودخلوا في حلف مع الفئات الوسطى والدنيا التي أرهقتها الأسعار وضريبة المبيعات. ونحن نعرف ذلك، لكن من الإيجابيات العظيمة لحركة الرفض هذه أنها وضعت على سطح متساو فكرة المواطنة الأردنية ونحت جانبا الانقسامات العمودية البغيضة والفجوات الإيديولوجية والثقافية لصالح وحدة الهم الاقتصادي الاجتماعي في المواطنة.
أول من أمس، ذهبت وزوجتي عند الدوار الرابع بعد العاشرة ليلا. كان العدد ضخما ولأول مرة تمتلئ الساحات بغير اللون الذي احتكرها لربع قرن. الجمهور كان مدنيا بامتياز، يحمل الشباب العلم الأردني فقط ويافطات كرتونية بسيطة بشعارات مبتكرة من دون تواقيع حزبية. ومن جهة الشميساني، كانت أعداد الشباب الغفيرة تتحرك باتجاه الدوار الرابع وكذلك الحال من جهات أخرى بأعداد أقل، وعند الاقتراب من الدرك يهتفون “يا دركي يا ابن عمي همك همي”، وينشدون أناشيد وطنية. أحيانا كان الأمن يختلط بالمتظاهرين وتتداخل الخطوط بصورة طريفة. تجولت بين الشباب وكل من عرفني وسلم علي كنت أسأل عن اسمه ومهنته ومن أين جاء وكيف يرى الأمر، بل وجدت بعض أقارب شباب يعملون في مهن جيدة.
كم كان الأردن جميلا بهذا الحجم من المشاركة الواعية. لم يأت أحد للشغب والزعرنة ولا برغبات مأزومة بل اعتراض محدد على السياسة الاقتصادية للحكومة والنهج الذي لم يعد ممكنا التسليم به. ولعل الأمر في بعض المحافظات أخذ منحى أكثر عنفا، لكن أعتقد أنه الاستثناء، وقرأت آراء تنتقد وتحذر بقوة من قطع الطرق وإشعال الإطارات.
جوهر التغير أن الناس في الماضي كانوا يطاحنون للحصول على أقصى ما يستطيعون من الدولة، والآن الدولة تطاحن للحصول على أقصى ما تستطيع من الناس. لذك فإن إحساسا قويا بالمشروعية والثقة يظهر في الاحتجاجات. وقد طغى شعار “معناش” في اليافطات، لكن البعض كتب معلقا “معنا وبدناش” لأن الناس حتى لو كانوا مقتدرين، فهم لا يريدون تمويل الهدر.

جميل النمري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *