في مثل هذه الأيام قبل خمسة عشر عاماً جرى اجتياح العراق، وسيثبت لاحقا أن ما فعلته أميركا فتح أبواب الجحيم على هذا البلد العظيم.
نشرت الغد، أول من أمس، نقلا عن النيويورك تايمز، لشاعر وروائي وأكاديمي عراقي مقيم في الولايات المتحدة شيئا يثير الشجن تحت عنوان “قبل خمسة عشر عاما دمرت أميركا بلدي”. الرجل معارض لنظام صدام منذ بدايات وعيه، كما يقول، وقد غادر العراق العام 91 بعد حرب الخليج وظل يحلم بنهاية الاستبداد، لكنه عارض مشروع الغزو وأصدر مع خمسمائة مثقف عراقي في الخارج نداء ضد الحرب التي تنذر بكارثة للعراق والمنطقة، ويقول إنه زار بغداد بعد ثلاثة أشهر من الاحتلال فرأى مخاوفه تتحقق؛ إذ كانت الإطاحة بصدام مجرد نتيجة ثانوية لهدف آخر هو تفكيك الدولة العراقية ومؤسساتها، وأعلن الجنرال بريمر رئيس سلطة التحالف المؤقتة مجلس الحكم واسم كل واحد متبوعاً بطائفته أو عرقه! ومضت هذه الشخصيات البغيضة إلى نهب البلد.
وأمس، كنا نستمع في مركز القدس للدراسات، لثلاثة خبراء عراقيين عن الانتخابات البرلمانية المقبلة، فقدموا معطيات كئيبة لا تبشر بخير. تتصدر المشهد كثير من الشخصيات الفاسدة موزعة على قوائم طائفية كالعادة، لكن أكثر تفتتا، فهناك 5 تحالفات شيعية من بين 52 تحالفا ينضوي تحتها أكثر من 200 “كيان سياسي”، إضافة الى قوائم محلية ومرشحين محليين وتحالفات انتهازية ومصلحية، والحشد الشعبي أصبح له قائمة، والميليشيات المسلحة لها دور كبير، وكذلك دعم القوى الإقليمية المتنافسة لهذه القائمة أو تلك. والحال أن الوضع بعد هزيمة داعش لن يتغير عما كان قبله بالنسبة لخراب الدولة والمجتمع والفساد الشامل.
لعل هذا يفتح على السؤال: هل الأميركان إذن وحدهم أصل الخراب؟ الغد نشرت أمس عن الموضوع نفسه للباحث (روبرت د. كابلان) نقلا عن “فورين بوليسي” يعترف فيه أن تدخل الولايات المتحدة في العراق عسكريا العام 2003 كانت نتيجته الحرب والفوضى، لكن يضيف أن الولايات المتحدة لم تتدخل العام 2011 في سورية، وكانت النتيجة أيضا هي الحرب والفوضى! يمكن أن نحاجج حول دور أميركا في سورية فماذا عن ليبيا واليمن؟! الحقيقة أن الفوضى والعنف حلّا في كل مكان دحرت أو تزعزت فيه السلطة الدكتاتورية. وقد أنقذ مصر نسبيا موقف الجيش الذي أزاح مبارك وراقب الموقف لبعض الوقت ثم عاد واستلم الزمام مباشرة، وتونس هي الاستثناء لأنها تنتمي لفضاء آخر. وأيام بن علي في أول زيارة لي لتونس قررت أن الرجل يضع المجتمع التونسي في قميص مصطنع ليس له؛ أي أن نظاما أمنيا غبيا مفروضا على مجتمع مؤهل لحكم مدني ديمقراطي.
كاتب المقال المشار له آنفا يحمل حكم البعث المسؤولية الأصلية، ويقول كلما كانت الأيديولوجية أكثر تجريداً وشمولية ازداد كمّ الدم الذي يسيل في أعقابها. فهي لا تعرض أي طبقات وسيطة للمجتمع المدني -بين النظام في القمة والقبيلة والعائلة الممتدة في القاع- والتي تستطيع إبقاء البلد متماسكاً. وينقل عن مقابلة مع المفكر إلياس خوري قبل الحرب بسنوات طويلة قوله “هذه الأنظمة نجحت في تدمير أي بدائل عنها. والخيار هو فقط بين السيطرة الكلية أو الفوضى الكلية”.
لا نختلف على دور الاستبداد في محو كل بنية بديلة، لكن هذا لا يقلل من إدانة الاحتلال المدان من حيث المبدأ؛ إذ يطيح بحكم لا يترك وراءه بديلا، إنما الأكثر رعبا -وهو أمر موثق- أن الولايات المتحدة سعت لتطبيق كل قرار يفاقم الفوضى والخراب الذي تجاوز أكثر الكوابيس ترويعا.
جميل النمري