من الواضح تماماً أنّ ما كان المسؤولون الأردنيون يمنّون أنفسهم به من ميل التحولات في المنطقة إلى الاستقرار والتهدئة لم ينجح، بخاصة بعد التوتر الروسي- الأميركي، والتغييرات الجديدة في الإدارة الأميركية، فإنّ القول بأنّ المنطقة قد تذهب باتجاه ما هو أسوأ مما سبق لم يعد هاجساً غير منطقي أو مبالغا فيه!
على النقيض مما كان متوقعاً بعد نجاح الرئيس الأميركي دونالد ترامب، من أن يؤدي ذلك إلى تقارب شديد في العلاقات الروسية- الأميركية، فإنّ التعيينات الأخيرة التي قام بها الرئيس على صعيد استبدال مايك بمومبيو بريكس تيلرسون في وزارة الخارجية وجون بولتون بهربرت مكماستر كمستشار للأمن القومي، ووضع جينا هاسبل في موقع مدير وكالة الاستخبارات الأميركية الـCIA، تؤشّر بوضوح على أنّنا أمام مرحلة أكبر من عدم الاستقرار والتفاهم بين القوى الدولية والإقليمية في منطقة الشرق الأوسط.
الطريف في الأمر أنّ التحذيرات غالباً تنطلق من الصحافة الأميركية من هذه الإدارة التي أصبحت صقورية إلى أبعد حد، وأقرب إلى التفكير الحربي وعسكرة المنطقة بأسرها، ومن يقرأ المجلات والصحف العريقة يدرك ذلك، كما هي حال افتتاحية النيويورك تايمز عن جون بولتون مستشار الأمن القومي الأميركي (التي ترجمتها الغد أمس) بعنوان “نعم جون بولتون خطير إلى هذا الحدّ”، ومقالة الفورين بوليسي “مرحباً بكم في إدارة ديك تشيني”، ووصفت الفريق الحالي حول الرئيس بأنّه فريق صقوري يميل إلى قرارات الحروب، وكما ذكرت افتتاحية النيويورك تايمز فإنّ المشكلة ليست في وجود جون بولتون في الإدارة بل في أنّه أصبح يمثّل الخط الرئيس لها، مع غياب الفريق الذي كان يعمل دور الكابح لدونالد ترامب.
ذلك يعزز القناعة بأنّ ما يسمى بـالعودة إلى “سلام المستبدين” بعد تبخّر الآمال بالعصر الديمقراطي على حد تعبير الكاتب الأميركي جيمس تراوب، ليس خياراً عقلانياً وواقعياً (في مقاله الذي أنصح بقراءته بشدة، بعنوان “عصر البراءة في الشرق الأوسط انتهى”) كما يذهب اتجاه من الإدارة الأميركية، لأنّ عوامل التغيير والتحريك وعدم الاستقرار أكبر من العودة إلى سياسة دعم المستبدين والدكتاتوريين.
بهذا المجال من المهم قراءة أوراق مشروع مهم (أشار تراوب في مقالته إلى خلاصته) أنتجته مؤسسة القرن الأميركية بعنوان “من الرماد إلى النظام: حلول أو وقائع جديدة لأمن الشرق الأوسط” (وهو عبارة عن مجموعة من التقارير التي كتبها خبراء في منطقة الشرق الأوسط وتتناول العديد من الملفات والتحولات وتصل إلى نتائج وحلول)، وأهمية هذا التقرير تكمن في أنّه يقدّم صورة كلية ومنظوراً أكبر للمنطقة والأوضاع الأمنية والسياسية، والتحولات التي ضربت بنيتها السياسية والاجتماعية والثقافية، فأصبح هدف ترميم الأنظمة القائمة أو حتى المعادلات التي يقوم عليها النظام الإقليمي في المنطقة أمراً غير ممكن.
بالنتيجة؛ ما نشهده اليوم ليس مرحلة مؤقتة ثم يعود النظام للاستقرار، بل مرحلة انتقالية ومتغيرة، وتحول في بنى القوى والفواعل لا يهدد فقط استقرار المنطقة بل يغيّرها، فالفاعلون العابرون للحدود (مثل داعش والميليشيات الطائفية) والحروب بالوكالة والقوى الإقليمية وصراع الهويات هي بنى جديدة تعني نهاية حقبة الشرق الأوسط القديم وبداية لحقبة غير معروفة التضاريس والمعالم الاستراتيجية والجغرافية بعد!
د. محمد ابو رمان