لا توجد رسالة أكثر تحديا وقوة من تلك التي حرص جلالة الملك على إطلاقها أمام نحو 130 زعيم دولة خلال اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة أول من أمس، بتأكيده على أن الأردن سيتصدى لأي محاولات لتغيير الهوية التاريخية العربية الإسلامية والمسيحية للمدينة المقدسة.
حديث جلالته في غاية الوضوح، ولا يحتاج إلى تحليلات وتفسيرات وبحث واستقصاء، فإنهاء الصراع الفلسطيني الإسرائيلي لن يكون إلا بإقامة دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة وقابلة للحياة، على خطوط العام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، وهذا يعني أن الموقف الأردني الذي يقال في الغرف المغلقة، هو ذاته الذي يصدح به في العلن، كما يعني أيضا أن ما تسمى بـ”صفقة القرن”، التي تروج لها أميركا وتسعى إلى تحويلها لأمر واقع، وتسعد بها دولة الاحتلال، لن تنال رضا ومباركة الأردن كونها تمس ثوابته بخصوص الموقف من القضية الفلسطينية وتشعباتها، فالمسألة أردنيا منتهية ولا جدال فيها ولا فصال.
هذا الموقف، الذي جدد إعلانه الملك، يعيدنا إلى الوراء خطوات قليلة، حيث لا بد من وقف الحديث الذي تناثر مؤخرا بخصوص تعرض الأردن لضغوطات سياسية بطابع اقتصادي من أجل التأثير على موقفه من القضية الفلسطينية، الموقف الرافض لكل ما يطرح حول “صفقة القرن”، والاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، وملف اللاجئين، وغيرها.
لا أنفي وجود هذه الضغوطات، أو أقلل من حجمها، وتأثيرها، لكن بعد العناوين التي أطلقها الملك، اعتقد أن الوقت قد آن لأن نضعها خلفنا، ونمضي بثبات كثبات الموقف الأردني بهذا الشأن، وأن نلتفت أكثر وأكثر لتمتين جبهتنا الداخلية اقتصاديا، وهي المهمة الأصعب التي على الحكومة السير بها قدما، حتى ولو “حبواً”. وليس بمعلومة جديدة تطرح عندما نقول إن الاستقرار الاقتصادي يعني الاستقرار السيادي لأي دولة، وأن ذلك يعني ايضا الصمود في وجه أي ضغوطات مهما كان لونها، أو حجمها، أو قوتها، وكل ما أرجوه أن تدرك الحكومة أن الوضع لم يعد يحتمل مزيدا من البطء والتروي والهدوء.
الملك مستندا على حرص الأردن على تحقيق الأمن والسلم في جميع أرجاء المعمورة، ومن على المنبر الأممي، حمل العالم مسؤولية وقف نزيف الوقت بخصوص العديد من الملفات، فالأصل أن يكون العالم أجمع شريكا في حل أزمات المنطقة، التي تقع أعباؤها على عاتق المملكة اقتصاديا، وسياسيا، وأمنيا، ومجتمعيا، وهذه الأعباء تفوق طاقتها.
ليس من المعقول أن يستمر الصمت الدولي بشأن ما يحدث، لأن نتائج ذلك وخيمة، سيدفع الجميع ثمنها مهما بعدت المسافات، فالتطرف الذي سيولد نتيجة الظلم والتعامل بازدواجية تجاه مختلف القضايا، لن يميز بين بعيد أو قريب.
الأردن، الدولة صغيرة المساحة، فقيرة الحال ماديا ومائيا، يشهد لها أنها كانت وما تزال أكثر حرصا، واهتماما من المجتمع الدولي بأسره بالشعوب التي نالها من الحرب ما نالها، وهجرت من أراضيها، لتجد تراب عمان والمحافظات فرشا ورديا لهم، رغم قساوة الحياة وألمها على أبناء هذه الأرض، الذين نشأوا على إرث العراقة والتقاليد في التراحم والانسانية، كما وصفهم جلالته.
صيغة خطاب الملك، التي طرحت العديد من التساؤلات، ولغة الجسد أثناء إلقائه لكلمته، تؤكد أن الوضع لم يعد يحتمل، وكأن جلالته يقول “لا تديروا ظهوركم في محاولة للهروب من الواقع، الذي قد يتحول إلى رعب حقيقي إذا لم تتداركوه”. في حقيقة الأمر، خطاب جلالة الملك بلغ منتهى الوضوح، معبرا عن الرغبة بأن يعيش العالم في سلام وأمن وهدوء واستقرار وسكينة، وهو ما لن يتحقق إلا بتوفر رغبة وإرادة دوليتين، وتسابق للوصول إلى هذه النقطة البعيدة من الحلم الأردني.
مكرم الطراونة