كتّاب

الملك كما عرفته

بعد أن أكرمني مولاي حضرة صاحب الجلالة الهاشمية الملك عبدالله الثاني ابن الحسين، حفظه الله وأدام ملكه وأمضيت بمعيته حوالي ثماني سنوات وسبعة أشهر رئيساً لديوانه الملكي الهاشمي العامر على مدى حكمه المديد باذن الله، ومر بنا الهين والصعب، والحلو والمر، والخفيف والشديد، تبين لي بوضوح الكثير الكثير من الصفات لهذا القائد الفذ والتي جعلته يسمو إلى انسانيته.

رافقته، حفظه الله، في الداخل الأردني مع رجال الحكم العاملين والسابقين وقادة جيشه وأجهزته الأمنية ومنتسبيهم والأردنيين في مضاربهم كافة، وفي الخارج بمؤتمرات قمة العرب والمسلمين وهيئة الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي وقادة دول العالم المؤثرين والاقل شأناً ومراكز الاعلام والفكر.

كان جلالة الملك عبد الله الثاني دائماً منسجماً مع نفسه ومعتقده وشخصيته وأردنيته وعروبته وإسلامه، لا يحيد عن أن الشأن الأردني لا يعلو عليه شأن، وفي حله وترحاله كان على الدوام موضع ترحيب واحترام على مدى العالم الارحب.

أنا على ثقة تامة بأن السواد الأعظم من الأردنيين يعرفون العديد من صفات الطيب التي يتحلى بها ملك البلاد وخاصة بعد ان شارف على العشرين عاماً لاعتلاء العرش. وما هذه العجالة إلا من شاهد عليها مع القناعة الأكيدة بأن سيد البلاد ليس بحاحة لشهادتي أو لأي مكان لكنها كلمة حق موجهة الى القلة الذين لا يعرفونه، أو آثروا أن لا يعرفوه ابتغاء الضلالة وطمس الحقائق.

1. لنبدأ بالصفة الأهم والتي ترتقي الى درجة القدسية وهي المواطنة الحقة التي تفرض الولاء المطلق للوطن الى درجة إنكار الذات من أجل الوطن. هذا كتاب مقدس لا يعلوه في قدسيته إلا كتاب الله جل جلاله… وما كان «الأردن أولاً» الذي أطلقه جلالة سيدنا في أوائل عهده شعاراً أو كلمة رومانسية يراد بها شعبية وإنما النجم الذي يهدي الناس سواء السبيل ويهدي الوطن الى غاياته.

موقع الأردن الجيو سياسي صعب للغاية. فهو في قلب الوطن العربي المحتدم والشرق الأدنى المتوتر والمنطقة التي تتصارع فيها القوى الإقليمية والدولية كل حسب مصلحته. فلا غرابة أن يتعرض الأردن وباستمرار للكثير من الاغراءات والتهديدات والمساومات من الاجندات الإقليمية والدولية التي يمكن لبعضها اذا بقيت دون مواجهة أو براعة دبلوماسية، أن تضر بتاريخ هذا البلد ومصالحه وإنجازاته ومبادئه. إلا أن الصفة الوطنية المترسخة في وجدان الملك عبدالله الثاني، والموروثة عن أبيه وأجداده، والممتدة الى الأردني بشكل جارف سدت كل مواقع الاختراقات المحتملة. حافظ الأردن على استقلاله دون تبعية، لا إقليمية ولا دولية، وكنت أسمع مراراً من سيدنا قوله « الأهم من الاستقلال هو الحفاظ عليه»… والمملكة استقلت عام 1946م وحافظت على استقلالها.

وبعد أعوام ثلاثة ستحتفل هذه الدولة الأردنية بعيدها المئوي باذن الله، ولو كانت تخضع لإملاءات تصوغها أجندات غير أردنية لما بقي بلدنا ليومنا هذا يتمتع بهذا القدر من الاستقرار والامن والانجاز على الأرض. ترسخت بحمد الله مؤسسات الأردن ودستوره وأصبح دولة عميقة يشار اليها بالبنان.

والأمثلة كثيرة وأهمها السنوات الثماني العجاف والتي لا تزال دائرة من حولنا حتى الجنون. لم يزج جلالة الملك عبدالله الثاني بلدنا بأي شأن قطري داخلي أو صراع إقليمي/ دولي في الأقطار المحتدمة من وطننا العربي بالرغم من الضغوطات أحياناً والمغريات أحياناً أخرى، إلا اللهم مقتضيات الدفاع عن النفس المتمثلة بحماية حدود الوطن الاغر والمواطن الأردني بقرار وطني وسواعد أردنية. لم ينجُ الكثيرون من حولنا من هذه الضغوطات والبعض لم يقاوم الانفعال بالتعامل مع الاحداث، إلا أن إصرار سيد البلاد على الاستقلال والأردن أولاً أبقى الوطن منيعاً عزيز الجانب، ويحظى بالاحترام من الدول التي حاولت ذات مرة الضغط عليه.

وفي زمن الحروب الباردة فالدول التي لا تضطلع بدور ما تصبح هامشية وعرضة للتسويات على حسابها. أدرك جلالة سيدنا هذه الحقيقة ووضع الأردن على خريطة الاعتدال وأصبحت هويته إقامة السلام وحفظ السلام، ثم تحدى المتطرفين الخوارج الخارجين عن الدين الحنيف وأصبحنا جزءاً رئيسياً من الحرب الدولية على الإرهاب، وبالتحديد، حماية حدود الأردن الممتدة بقدرة الجيش العربي الأردني المتين وبالعمليات الاستخباراتية وبخاصة عمليات دائرة المخابرات العامة المحترمة وبالأجهزة الأمنية الداخلية اليقظة وبوعي الأردنيين الغيارى على وطنهم في تعقب ومداهمة الخلايا النائمة. أما سياسيا ودبلوماسياً فأبقى الملك على علاقات متينة مع الشرق والغرب. بهذا أصبح الأردن مهماً للعالم يتعدى حدوده الجغرافية وبهويته بعيداً عن التسويات على حسابه ودون تبعية لاحد.

2. وصفة الشجاعة في مليكنا واضحة للعيان وأول من عرفها رفاق السلاح من منتسبي القوات المسلحة الباسلة، ثم من بعدهم رجالات السياسة الذين شهدوا جولاته وصولاته في المحافل العربية والإقليمية والدولية وأمام قادة القوى المختلفة. والحديث هنا يطول وباختصار تتجلى شجاعته بالدفاع عن الشؤون الأردنية والقضية الفلسطينية والوجه الإسلامي السمح. ولعل أهم مثال على شجاعة الملك أنه أخذ على عاتقه، كهاشمي حر، الوصاية على الأماكن المقدسة الإسلامية والمسيحية، وبالتحديد الحرم الشريف في البلدة القديمة من القدس الشريف في خضم « الربيع العربي» واختلاط الأوراق الإقليمية والدولية في منطقتنا، وتدني الاهتمام العربي والدولي بالقضية الفلسطينية، والوهن العربي والغموض الذي يكتنف مستقبل منطقتنا، والغطرسة الإسرائيلية في فلسطين، واللأبالية الأميركية بنتائج نقل سفارتها واسطورة صفقة القرن.

3. أما صفة التواضع والأدب الجم فهي بارزة بشكل واضح في الهاشميين بشكل عام، وفي ملوكنا بشكل خاص. الملك عبد الله الثاني ابن الحسين شديد التواضع ويتحلى بأدب رفيع. لا يلجأ لإحراج أحد حفظاً للكرامة ويعالج المواقف المحرجة بالتروي دون انفعال الى أن تنجلي الأمور فيحكم عليها بالعدل. لا يسقط غضبه على الاخرين وهو مستمع جيد لمن يتحدث أمامه ويقبل الرأي الاخر حتى لو كان مغايراً لرأيه اذا رأى فيه وجاهة.

والخلق الرفيع سمة إنسانية باركها الله بوصفه رسوله المصطفى، عليه أفضل الصلاة، بأنه على خلق عظيم. وعلى مساحة الزمن الذي قضيته بقرب جلالة الملك لم أشهد لحظة تكبر أو تجبر او خيلاء امتثالاً لقول الله عز وجل وعلا « ولا تمشي في الأرض مرحاً انك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولاً.. فالملك عبدالله يهتدي بسيرة جده محمد بن عبدالله (صلى الله عليه وسلم) وجدير به ان يكون بحق عميد آل البيت الأطهار.

4. يقول الحكماء أن من أعظم صفات الناس الكرم فتندرج كل الصفات الطيب في الكريم فيما تندرج كل صفات القبح بالبخيل والربط بين صفتي التواضع والكرم قوية مصداقاً لقوله تعالى» والله لا يحب كل مختال فخور. الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ومن يتولى فإن الله هو الغني الحميد».

فهذا الملك القوي الشديد في الملمات إنسان رقيق أمام الفقير والمسكين واليتيم والمريض والطالب المحتاج والشهيد، دون منية دون إعلان.

5. ويميل ملوك ورؤساء الدول الى الاهتمام بالشؤون الكلية دون الجزئية تاركين التفاصيل للأجهزة التنفيذية المعنية. جلالة سيدنا يختلف عن الكثير من القادة باهتمامه بالتفصيلات الجزئية المتعلقة بالأمن والشؤون الحياتية للمواطن.

بعد إنتهاء فترة العزاء للمغفور له جلالة الملك الحسين بن طلال طيب الله ثراه شرفني جلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين بزيارة إلى دار رئاسة الوزراء، تحدث جلالته باسهاب في الكثير من شؤون الدولة والمواطن ومعيشته وسبل تحسينها والتحديات التي تواجه هذا الوطن.

أعترف أني دهشت من المام جلالة الملك بالتفصيلات فاستسمحته وسألته عن مصدر هذه الجزئيات الدقيقة فأجابني « لا تنسى ان والدي هو معلمي الأول وأني عشت فترة طويلة من عمري مع رفاق السلاح أشاركهم السكن ولقمة العيش وأستمع لهمومهم خارج معسكراتهم وكتائبهم والويتهم». فتوضح الامر لي بشكل جلي.

أليس لنا ان نشكر الله على نعمه وأفضاله علينا ان قيض لنا ملكاً، الإنسانية فيه تعلو على المُلك، ينتمي إلى أردنيته ويحبها إلى درجة إنكار الذات وهمُّه أردني أولاً وقبل كل شيء، عروبي برسالة الثورة العربية الكبرى التي يحمل رايتها، عميد آل البيت يدافع عن الدين الحنيف واعتداله ومقدساته ويحارب خوارج الزمان بلا هوادة، وشجاع ومتواضع ومؤدب كريم النفس.

حمى الله الأردن وحمى شعبه الطيب وحمى الملك انه سميع مجيب الدعاء. الرأي

فايز الطراونة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *