كتّاب

قوة الفكرة … وفكرة القوة

د.ماهر عربيات

   أصاب الأديب والروائي الفرنسي فيكتور هوغو حينما قال : أقوى شيء في الكون، بل أقوى من الجيوش وأقوى من القوة المجتمعة للعالم بأسره، هي فكرة آن أوان خروجها إلى النور… ولم ينحرف عن الواقع من قال : كل التغيرات السياسية المهمة تبدأ بفكرة … بل قد يتغير شأن العالَم برمته وليس السياسي فقط بفكرة … ألم يقل أوغست كونت : وحدها الأفكار تغير العالَم؟… ولكن متى يحين أوان الفكرة فيكونَ لها هذا الدور الخطير؟ 

  حينما تواصل دولة إسناد شؤونها لمفكريها وعلمائها، فهذا إعلان صريح بأنها ماضية على الدرب القويم، فلا تنهض الدولة بغير العلم، وما حمل العلم يوما أهله إلا إلى المجد والحضارة والسمو، ومتى كانت كوكبة النخبة ذات مكانة وحضور أساسي في الدولة ونسيجها الاجتماعي، فهي بذلك من ثوابت الحياة الديمقراطية، بما تملكه من ادوات مؤثرة في تكوين المجتمع واستقراره، ولهذا فهي أجدى وأولى وأنفع من اسناد شؤون الدولة للنخب المصطنعة بجهودهم وحضورهم المتواضع وفكرهم الشحيح، وأكبر من قصورهم الفاخرة التي زحفت بعيدا عن ضوضاء وهواجس الحياة.

   وحينما يتعاظم دور كوكبة المفكرين والعلماء، ويزداد تأثيرها في حياة المجتمع والسياسة والإقتصاد ضمن تلك الإنطلاقة وبهذا الشعاع الباهر، حينئذ يطلق عليها : الثينك تانكس أو مراكز الفكر. 

  من البديهي القول أن أي دولة لا يمكن أن تكون متكاملة القدرة والحيوية، إن لم تبتدع لذاتها الوسائلَ والأدوات المطلوبة لذلك. فكلما تنوعت مظاهر صلابة الدولة اتسع لها المجال لبسط هيبتها ومكانتها، والاسهام في نهج العالَم السياسي والإقتصادي والثقافي.  ولسنا بصدد الحديث عن مجمل مظاهر قوة الدولة لأن معظمها نار على علم ولا يستوجب الأمر الكشف عنها. ولكن شكلا منها لا زال في تقديرنا بعيدا عن التناول، على الرغم من أهمية وضرورة التقاطه من قبل رجال الفكر والرأي حتى تكتمل جوانب الإحاطة بفلسفة الدولة الصلبة. 

  إننا نقصد على وجه التحديد مؤسسات الفكر، أو مراكز البحث ووظيفتها في تكوين الوعي، ودورها في توجيه الرأي العام، وتوفير ما يحتاج إليه صناع القرار من إرشاد وتنوير ومعلومات ودراسات. 

  لا جدال في أن غالبية مراكز الفكر التي تشهد اليوم شيوعا واسعا في مختلف دول العالَم قد ولدت ميتة. بل هي لا تعدو عن كونها جمعيات ثقافية وجعجعة بلا طحن، أو مراكز بحثية محدودة أو هياكل منظمات غير أكاديمية يجري توظيفها من قبل العديد من أنظمة الدول غير الديمقراطية لتكون مطية لها، بما تقدمه من مؤازرة سياسوية تنشط فقط على سطح الأحداث، بعيدا عن جوهرها وغير منخرطة بها توجيها وتقويما، ويشمل هذا الأمر دول الديمقراطيات الغربية، التي راهنت عبثا على قدرتها في تكوين الرأي العام، وابتكار ما تحتاجه من حلول لقضاياها الراهنة وتحقيق مشاريعها المستقبلية والإستراتيجية.

  ولعل الولايات المتحدة هي الدولة الوحيدة في العصر الحديث، التي شهدت شكلا من مراكز الفكر، القادرة والمنتظمة في إنتاج الأفكار والمشاريع الضخمة للسياسات الدولية أو المحلية، كالاقتصاد والتعليم والصحة وغيرها. وبات هذا النموذج من مؤسسات البحث الأمريكية بما صاغت لنفسها من معايير وخصائص، شريكا رئيسيا في صناعة القرار، وربما لا نغالي إذا قلنا أنها تخطت تلك الشراكة بما تملكه من إمكانيات وقدرات ضخمة، حتى أضحت لاعبا أساسيا في تحديد شخصية الرئيس القادم  للولايات المتحدة. 

  لقد عبرت مراكز الفكر عن حضورها المثير، منذ الوقت الذي دخل فيه إنتاجها الفكري حيز التنفيذ، لتقدم نفسها للعالم ولصناع القرار الأمريكي  على أنها مؤسسات فكر ودراسة وإمداد وتوجيه، مشيرة إلى الدور الإرشادي والتنويري الذي أخذت تمارسه وتضطلع به …  في كوكب ظاهره يدار بجبروت المال والسلاح، لكن باطنه تتولاه عقول تجيد هندسة الإدارة عن بعد.