تكفي قراءة خاطفة وسريعة لحالة الارتباك الرسمية الحكومية في التعامل مع ردود الفعل على الحزمة التي اتخذتها الحكومة في إلغاء الإعفاءات الضريبية، وتراجعها عن العديد من القرارات، لندرك بوضوح أنّ هنالك غياباً كاملاً لأيّ استراتيجية حقيقية رسمية في هذا المجال، ولأي حوار وطني – في الحدّ الأدنى- بين الحكومة والقطاعات ذات العلاقة بالقرارات، وأخيراً فقدان أي قدر من الفلسفة السياسية الوطنية تقف وراء القرارات والسياسات الحكومية!
بعدما وصلت الحكومة إلى قناعة – قد تكون صحيحة في المجمل- بأنّ الإعفاءات الضريبية غير المدروسة، خلال الأعوام السابقة، كلّفت الخزينة مئات الملايين، من دون حساب دقيق للفوائد والكلفة، وبصورة عشوائية، قرّرت – أي الحكومة- إلغاء الإعفاءات بالجملة، أيضاً، وبجرّة قلم، من دون أن تدقّق وتفصّل في الأبعاد المالية أولاً، وفي الأبعاد الرمزية والاجتماعية والإنسانية ثانياً.
اضطرت الحكومة – لاحقاً- للتراجع عن قراراتها بخصوص ضريبة الكتب والقرطاسية (بعدما اكتُشف أنّ المبلغ المترتب على ذلك سخيف!)، وعن ضريبة المبيعات على الأدوية (لأنّها مرتبطة بأبعاد إنسانية واجتماعية كبيرة)، وضريبة دمغة الذهب، ولا أعرف أين وصلت المفاوضات مع المزارعين بخصوص المنتجات الزراعية، وضريبة الهايبرد (لأنّ التقارير الإعلامية فيها متضاربة)، وهنالك توجّه كما تفيد تقارير للتراجع عن “ضريبة الوزن” على السيارات بعدما تبين أنّ أضرارها أكبر من نفعها!
حالة الارتباك وعدم الاستقرار والمراهقة الرسمية في التعامل مع قرارات مصيرية مرتبطة بأعصاب الناس ومصالحهم لا تقف عند الضرائب، وما يمكن أن يحدثه ذلك من إرباك وارتباك، بل تصل إلى ما هو فوق ذلك إلى العلاقة مع صندوق النقد الدولي، التي كشف الزميل يوسف ضمرة في تقرير مهم له أمس، بأنّها تسير على حبل مشدود، وتتسم بالتوتر.
ومن المعروف أنّ الصندوق رفض ما قامت به الحكومة بخصوص أسعار الخبز واعتبر ذلك تحايلاً على الموضوع الحقيقي وهو إعادة هيكلة ضريبة الدخل، وإلى الآن لا توجد دراسات رسمية تبين لنا ما هي التعديلات المقترحة فعلاً على الدخل، وما يمكن تحصيله من ذلك، والأبعاد الاجتماعية والسياسية والاقتصادية المترتبة عليه!
المسألة تتجاوز فقط عدم الوضوح، أو الارتباك الرسمي إلى أزمة حقيقية في بنية القرارات الحكومية وفلسفتها والعمق المطلوب فيها، وهذا أخطر ما في الموضوع؛ بمعنى أنّنا نتحدث عن تغييرات مهمة في المعادلة الاقتصادية- السياسية وعن سياسات الاعتماد على الذات، ومنعرج مهم – وبتعبير أكثر دقة خطير- في تاريخ البلاد، ومع ذلك هنالك تخبّط في اتخاذ قرارات، من المفترض أن تكون محصلة تفكير عميق وحوارات وطنية وتنامي الوعي لدى أصحاب الشأن والمصالح فيما يخص السياسات الاقتصادية، وهذا كلّه يبدو مفقوداً فيما نلاحظه اليوم، وأتمنى أن أكون مخطئاً بهذه النتيجة والقناعة!
حالة الحكومة في اتخاذ القرارات وتراجعها تذكرني بالأغنية الشعبية الشهيرة، قاعد لوحدك، مع تعديل طفيف على كلماتها أتخيل أنّ هذا ما يحدث مع الوزراء: قاعد لوحدك، كده زهقان، قوم ياله، العب ياله، قرّر ياله”، ثم ندفع جميعاً ثمن هذا اللعب بالقرارات والسياسات!
من الضروري أن نبدأ عمليات الإصلاح المالي والاقتصادي، لكنّ ذلك ليس بحسابات لبعض الأشخاص واجتهادات تخلو من أي دراسة معمقة للأبعاد السياسية والاجتماعية، بل من المفترض ان تصدر من إطار عميق يمتلك الرؤية الدقيقة، والمبنية على حوارات ونقاشات واسعة، وتحضير للرأي العام، ووضوح فيما وراء السياسات والقرارات والنتائج المترتبة عليها!
د. محمد ابو رمان