في مجمل تاريخ العمل السياسي في الأردن، لا توجد ظاهرة مكتملة، أو ذات قيمة، اسمها “معارضة أردنية في الخارج”. وحتى في فترة الأحكام العرفية، كان التواجد في الوطن، ميدانا للتنافس بين أحزاب المعارضة، وبين المعارضين كأفراد، وكان يسمى صموداً في الوطن.
ومن جهتها، فإن الدولة والأجهزة الأمنية، لم تكونا تضخمان ما تريانه من مظاهر معارضة هنا أو هناك، في الخارج في فترة الخمسينيات إلى السبعينيات، وبالطبع ما عدا تعاملهما الجدي مع ما يتصل بالنشاطات ذات الطابع الأمني العنيف (الإجرامي)، التي كانت تتبناها أحياناً أطراف سياسية أو تحاول تقديمها كعمل سياسي.
أما تجربة المعارضين الأردنيين أنفسهم الذين أقاموا في الخارج كأفراد أو كمجموعات حزبية محدودة، فقد كانت قاسية بكل المقاييس، والمقصود قاسية على المستوى السياسي، ذلك أنه بعيدا عن السياسة، فقد توفر فيها قدر من الاستمتاع.
وقد أورد المرحوم عبدالرحمن شقير (وهو من أبرز زعماء المعارضة الأردنية في الخمسينيات) في مذكراته صفحات مؤلمة بهذا الخصوص، وهو يشرح كيف اضطر اللاجئون السياسيون للتنقل بين العواصم التي كانت تتقلب في معاملتهم، وهو بالطبع اختار أن يكمل حياته في وطنه في عمان، وكتب مذكراته الجميلة بعنوان جميل: “من قاسيون إلى ربة عمون”.
وعندما كان المعارض المقيم في الخارج يعود، فإن التعامل الأمني معه لم يكن بالضرورة مميزا سلبيا ضده مقارنة بمعارضي الداخل، كما أن الدولة وأجهزتها لم تتعاملا مع معارضي الخارج بعقلية الاقتصاص أو اقتناص لحظة ضعف عند العودة. ويمكن في هذا السياق أن نستحضر تجربة عشرات المعارضين الذين أقاموا في الخارج ثم عادوا، مع أنه كان لبعضهم علاقة “جرمية” مع البلد ككل، ثم تمكنوا من العيش والرحيل والدفن فيه بكرامة.
لحسن الحظ، ما يزال الشعب والدولة؛ في المعارضة وفي الموالاة، محكومين إلى درجة كبيرة، بمنظومة من القيم من صناعة محلية أردنية؛ حيث يعد من الجبن أو “النّقاصَة”، أن تشتم وتنتقد وتعارض عن بعد، وحيث تتطلب الرجولةُ المواجهةَ مع الخصم.
في فترة الأحكام العرفية، كانت الأجهزة الأمنية تعاقب معارضيها بمنعهم من السفر والعمل، ولكنها أبداً لم تكن تمنع، بل كانت ترحب أحياناً بالاتفاق مع المعارض على المغادرة النهائية، لأنها تعرف أن قبوله المغادرة بالاتفاق معها يعادل انهياره السياسي، سواء على مستوى الحزب الذي ينتمي إليه أو على المستوى الشعبي العام.
فيما سبق كانت كلمة معارضة ترتبط عادة بكلمة “وطنية”، وكانت المعارضة تقع عادة على يسار الحكم، بالمعنى العام لكلمة يسار؛ أي أنها كانت تنافس الحكم على تمثيل المصلحة الشعبية، ولكن الأمر تغير لاحقاً.
وفي السنوات الأخيرة، شهدنا تفاصيل التجربة العراقية والليبية والسورية مع معارضة الخارج، وهناك أحياناً محاولات أردنية لتقديم وجوه من الخارج كمعارضة، بعضها يسعى للعلاقة مع أطراف أميركية أو غربية، بهدف إقناعها بأنه “أقدر” على خدمة وتلبية مصالح الغرب. بمعنى أنه هناك من يطمح لأن يكون في أحسن الأحوال “جلبي الأردن” (نسبة إلى أحمد الجلبي). ولحسن الحظ أن في الأردن أكثر من “جَلَبي أصيل” ولا داعي للمزيد.
تتيح وسائل الاتصال والبث، الفرصة للحضور الإعلامي الذي قد يخلق وهماً عند صاحبه، فينهمك في إحصاء الناقرين على ما يكتبه والمشاهدين لما يبثه، باعتبارهم حشودا تنتظر قدومه لقيادتها.
احمد ابو خليل