يطرح الباحث الأميركي، وأستاذ العلوم السياسية في جامعة جورج واشنطن، د. ناثان براون، سؤالاً على درجة كبيرة من الأهمية (في كتابه When Victory is not an option، وهو الكتاب الذي تُرجم إلى العربية تحت عنوان “المشاركة لا المغالبة)، وهو: فيما إذا كان نجاح إدماج الحركات الإسلامية في اللعبة الديمقراطية في العالم العربي سيخلق لنا كائنات سياسية شبيهة بالأحزاب المسيحية الديمقراطية، أم أحزاب فاشية مثلما حدث في أوروبا بين الحربين، عندما استثمرت الأحزاب الشعبوية، النازية والفاشية، الانتخابات ووصلت إلى السلطة وأقامت أنظمة شمولية؟
الجواب عن السؤال -وفقاً لبراون- ليس بسيطاً، ولا هو في اتجاهٍ واحد، ولا يرتبط بالضرورة بأيديولوجيا الحركات الإسلامية الذاتية، بقدر ما يرتبط أيضاً بالسياقات السياسية المحيطة، وكلا الاحتمالين، وفقاً له، وارد، بعد أن يعود بنا -في كتابه- بإشارات ودروس مهمة من وحي تطوّر تجربة الأحزاب المسيحية الديمقراطية في أوروبا، مقارناً بين تجاربها المختلفة في تلك الدول، من ناحية، وتجربة الأحزاب الفاشية -من ناحية ثانية- مستعرضاً المراحل التي مرّت بها تلك التجارب، للمقارنة بينها وبين التجربة الإسلامية السياسية.
في كلّ الحالات لم يستبعد براون إمكانية تحوّل الإسلاميين السياسيين إلى نموذج شبيه بالأحزاب المسيحية الديمقراطية، عبر عملية “ترويض” في اللعبة الديمقراطية، تأخذ مراحل زمنية متدرّجة، تزداد من خلالها قناعة الإسلاميين بأفضلية اللعبة الديمقراطية وميزاتها مقارنة بالخسائر المترتبة على الاستراتيجيات الأخرى (مثل العنف والتغيير الراديكالي).
بالضرورة، فإنّ إسقاط تجربة تاريخية على أخرى أمر غير دقيق، وهو الأمر المنهجي الذي ينبّه له براون، في بداية الفصل الذي تناول هذه الجدلية، لكنّ في النهاية الحركات والأحزاب الإسلامية بوصفها كائنات مجتمعية سياسية، ليست فضائية- أيديولوجية مصفّحة، فهي قابلة للتطور والتكيّف والتحوّل، وإذا توافرت شروط جيّدة لعملية الانتقال نحو نموذج ديمقراطي، فإنّ ذلك -كما ذكرنا أمس- سيؤدي إلى “حل معضلات” مهمة ورئيسة في الحياة العربية المعاصرة، مرتبطة بالعلاقة ما بين الدين والعصر والسياسة والمجتمع.
لا يبتعد ما يطرحه د. نادر هاشمي (في كتابه الإسلام، العلمانية والديمقراطية الليبرالية) كثيراً عن مقاربة براون، ولعلّ ما يجمع بينهما هو تأكيد ضرورة استدخال المنظور التاريخي المقارنة والسوسيولوجي في دراسة الحركات الإسلامية أو تصميم السياسات المرتبطة بها، فهي كائنات اجتماعية، ثقافية، سياسية، تمثّل شريحة اجتماعية مهمة وحيوية، لا يمكن اختزالها أو استبعادها من المجتمع، سواء كنّا نتحدث عن التيار المحافظ- دينياً في المجتمع، أو الطبقات الوسطى التي شكّلت العمود الفقري لكثير من الحركات الإسلامية.
لعلّ المقارنة الطريفة التي يعقدها هاشمي هي بين الحركة البيوريتانية في انجلترا في القرن السابع عشر والإخوان في مصر في القرن العشرين، لنجد -وفقاً له- تشابهاً هائلاً في أسباب الصعود وحيثياته اجتماعياً واقتصادياً، من انتشار الجامعات وأعداد الخرّيجين الباحثين عن فرص عمل، وازدياد أعداد السكان والنزوح من الريف إلى المدينة، ما شكّل قوةّ ضاغطة كبيرة لتغيير النظام القديم وتوليد نظامٍ جديد.
على الطرف الآخر، يقترب آصف بيّات، كما ذكرنا أمس، في كتابه “ما بعد الإسلاموية” من هذا الطرح من خلال تقديم نماذج على التطوّرات التي أصابت الحركات الإسلامية ونقلتها من الإسلام السياسي إلى ما بعده، وهي التطوّرات النظرية والواقعية والنماذج المتنوعة التي سيناقشها الباحثون في مؤتمر اليوم “ما بعد الإسلام السياسي: الشروط، السياقات والآفاق”، الذي أشرنا إلى انعقاده بتنسيق ما بين مركز الدراسات الاستراتيجية في الجامعة الأردنية ومؤسسة فريدريش أيبرت في عمان.
د. محمد ابو رمان