كتّاب

“غير مسبوقة”..

أحاديث الناس في الأردن زاخرة بجمل وتعبيرات ومصطلحات قد لا تجدها بالكثافة والدلالة نفسهما عند الشعوب العربية الأخرى. ما إن يتقابل مجموعة من الأفراد أو يجري طرح موضوع ما للنقاش حتى يدخل أطراف الحديث في سباق محموم  لاستجلاب الأمثلة والشواهد التي تبرهن على صحة آراء المتحدث وسلامة السرديات التي يقدمها مستخدما بعض القوالب اللغوية وأشباه الجمل والتعبيرات الجاهزة. بعض المصطلحات والتعابير تأتي في مكانها والبعض الآخر يبدو خارج السياق شكلا وموضوعا.
من أكثر التعابير التي تسللت الى الخطاب الرسمي والأحاديث الاعتيادية مصطلح “في سابقة” أو “غير مسبوقة” أو “لا مثيل لها” في إشارة الى تميز الأوضاع أو الإنجازات أو الأحداث الواردة في نصوص الخطابات أو روايات المتحدثين. المبالغة والتشديد والإمعان في تأكيد خصوصية الرأي أو الرواية، أصبحت من ملامح الخطاب واللغات الدارجة في العديد من الأوساط الأردنية.
الكثير من الأفراد يبالغون في وصف كل ما يخصهم ويؤكدون أنه مختلف ومميز ولا مثيل له. فلا آباء مثل آبائهم ولا حنان في الدنيا كحنان أمهاتهم  ولا حكمة في الكون مثل حكمة أجدادهم وجداتهم. وقد يستغرق البعض في الوصف والمبالغة التي تتجاوز حدود المعقول عند الحديث عن أبنائهم وأزواجهم.
في لقاء لي قبل أيام مع أحد الآباء، بدأ الحديث عن أولاده السبعة وتميزهم، فقال إن ابنه الأكبر كان الأول على دفعته ليصبح أول طالب من أصول عربية يدخل الجامعة الكندية ويتخرج منها ليكون أصغر طبيب متخصص في المجال الذي يعمل فيه. وما إن انتقل للحديث عن الابن الثاني حتى ظهر أنه كان أصغر طلاب فوج الخريجين من المدرسة التي تعلم فيها وأول من حصل على درجة الدكتوراه. قاطعت صديقنا قبل أن يكمل تعداد خصائص الأبناء ويأتي على ملخص سيرهم وأوجه تفوقهم بسؤال عن بلدته وأقاربه وكيفية شعورهم حيال نجاحات الأبناء.
حديث الأب عن الأبناء، باعتبارهم الأفضل بين الأقران والأكثر ذكاء وجدية وإنجازا، ظاهرة واسعة الانتشار في ثقافتنا العربية. في قريتنا كانت الكثير من الأمهات يجبن عن سؤال الجارات والأهل “في أي صف سلامته”، بالقول إنه في السادس الابتدائي بالرغم من أن الطفل ما يزال في الصف الخامس، والسؤال في بداية العام الدراسي. الحرص على تضخيم التقييم للأبناء والنفس والإنجاز نزعة تجدها في معظم البيئات والأوساط وبين مختلف الفئات العمرية.
لا أعرف بالضبط عدد المرات التي صادفت فيها أشخاصا يعرفون عن أنفسهم بأنهم أصغر طالب يدخل المدرسة وأصغر خريج من الجامعة وأصغر موظف في مؤسسته. بعض الأشخاص يصر على أنه أول من زار بعض الأمكنة وأول من زار البترا وأول من حاز على وسام بالدرجة التي يستحقها من هم على شاكلته.
في الكثير من الحالات، يمكن أن يضع البعض يده على فكرة أو اقتراح لغيره، ويزعم أنه أول من قال كذا وأول من نبه الى كذا، لدرجة تجعلك تظن أنك تعيش في معسكر للإبداع أو معرض للمنتجات الفكرية من دون وجود معايير لتحديد المالكين الحقيقيين للأفكار ومنتجيها.
إصرار البعض على الحديث عن خصائصهم وميزاتهم يعكس إحساسا عميقا لدى الكثيرين منا بنقص مستوى التقدير الاجتماعي للإنسان واعتراضهم على الفتور أو البرود الذي يستقبل فيه نجاحهم، فالناس في بلادنا لا يظهرون مشاعر التقدير للنجاحات المرحلية التي يحققها الأفراد، لكنهم يندفعون بقوة وحماس نحو من يملكون المال والنفوذ، فيبالغون في  الثناء على نجاحاتهم وتعداد فضائلهم.

د. صبري الربيحات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *