كتّاب

كتاب أساسي

يمثّل كتاب المفكر السياسي المعروف فرانسيس فوكوياما “النظام السياسي والانحطاط السياسي” (Political Order and Political Decay) بحق أحد أهم الكتب والمراجع السياسية (قام منتدى العلاقات العربية والدولية في الدوحة بترجمته، الذي لا غنى عن قراءته ودراسته وتعلّمه، ليس فقط في الجامعات وكليات العلوم السياسية، بل حتى لمن يدخل حقل العمل السياسي أو يعمل بالسياسة، سواء في الحكومة أو العمل الحزبي أو المجتمع المدني.
الكتاب، يشمل مجلّدين رئيسين، الأول يتناول تشكّل السلطة والدولة وبروز الحكومات والمؤسسات السياسية، في التاريخ البشري، من خلال استعراض تاريخي مقارن للدول والمجتمعات، من الصين والهند مروراً بالعالم الإسلامي، وصولاً إلى أوروبا والغرب، ويصل إلى الثورة الفرنسية، ثم في المجلد الثاني يقدّم تحليلاً وتفسيراً للتحولات التي حدثت بعد ذلك، ولأسباب اختلاف المجتمعات والدول عن بعضها، فهو كتاب مقارن في النظم السياسية والثقافات السياسية، والمجتمعات، وفي التاريخ البشري.
المهم في الأمر أنّ الكتاب ليس تاريخياً أو نظرياً بحتاً، كما قد يتوهّم البعض من الفقرات السابقة (من هذا المقال) بل هو عملي وسياسي بامتياز، يسعى إلى بناء نظريات نفهم من خلالها ما يحدث في المجتمعات اليوم، ليس على صعيد التخمين والتكهّن، أو الأجوبة المعلبة الجاهزة، بل من خلال دراسة متأنية للتاريخ والبحث الجاد العلمي، لنفهم لماذا بالرغم من المشروعية السياسية الطاغية للنظام الديمقراطي اليوم، في كل دول العالم، فأصبح هدفاً للشعوب والمجتمعات، فإنّ كثيراً من الدول والمجتمعات فشلت في الوصول إلى هذا النظام؟ ولماذا أيضاً – وهذا مهم جداً- فشل النظام الديمقراطي في دول عديدة في حلّ المشكلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية؟ ولماذا هنالك شكوك حقيقية في وصول دول ومجتمعات إلى الحتمية الديمقراطية التاريخية، التي كان قد بشّر بها فوكوياما نفسه قبل قرابة عقدين من الزمن في كتابه الشهير “نهاية التاريخ”؟!
أفكار الكتاب كانت في الأصل التقديم الذي كتبه فوكوياما نفسه لكتاب صموئيل هانتنغتون الشهير “الأنظمة السياسية في مجتمعات متحولة”، (والأخير أحد أهم الكتب في العلوم السياسية والأنظمة السياسية)، فوجد فوكوياما بعد عقود أنّ كتاب هانتنغتون تقادم، وأنّ الأفكار التي قدّمها بحاجة إلى توسيع وتفصيل وتطوير وتعميق، فألف هذا الكتاب العظيم، وتقوم فكرته على أنّ تطور الدول والمجتمعات ليس رهيناً فقط بإقامة انتخابات ديمقراطية، بل بثلاثة عوامل متضافرة معاً؛ الدولة، حكم القانون، الحكومة الخاضعة للمساءلة والمحاسبة، وفيه تأكيد على أنّ الديمقراطية لا تؤدي دوراً مهماً في تطوير المجتمعات، لا تنبت نباتاً صحيحاً إلاّ في مجتمعات توفّر لها التربة والحاضنة الحقيقية، وأهم عامل من عوامل ذلك هو وجود المؤسسات السياسية الفاعلة والقوية والكفوءة.
يركّز فوكوياما في كتابه على أهمية المؤسسات السياسية وقدرتها على التكيّف مع التحديات (وفي ذلك استمرار لكتاب هانتنغتون السابق)، وعلى ضرورتها وفعاليتها وارتباطها بالثقافة الاجتماعية التي تحيط بها.
يتحدث الكتاب عن النموذج الدنماركي أو ما يسميه بـ”بلوغ الدنمارك”، التي تتمتع بديمقراطية فاعلة، ومؤسسات سياسية واقتصادية ناجحة، ومستوى منخفض من الفساد، بالرغم من أنّ ما يعرفه كثيرون بأنّ أصل المجتمع الدنماركي هي قبائل الفايكنغ، التي كانت تقوم على العلاقات العائلية والاجتماعية، ومفاهيم الغزو، لكنّها تطوّرت وطوّرت مؤسساتها السياسية مع مرور الزمن، حتى وصلت ما نراه حاليأً من نموذج عالمي يقاس عليه!
في المحصلة، فإنّ الديمقراطية ليست انتخابات، بل هي دولة ومؤسسات ومجتمعات، وعملية معقّدة، والديمقراطية ليست حلاًّ مثالياً لمشكلاتنا، إن لم تترافق مع وجود مؤسسات قوية وفاعلة، ولكل نظام سياسي مساره في التطوّر والنمو وارتباطه بالمجتمع المحيط به، ما يفسّر هذه الاختلافات الكبيرة في التجارب السياسية.

د. محمد ابو رمان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *