اعترف وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، في نعيه للمؤرخ البريطاني-الأميركي، المعروف، برنارد لويس (الذي توفي قبل أيام قليلة) بأنّه تأثر كثيراً بكتاباته عن الشرق الأوسط وفهمه، بالرغم من أنّه لم يلتقه -أي لويس- إلا مرّة واحدة.
ليس غريباً أن نجد قيادات اليمين الأميركي المحافظ تحديداً هم من يؤكدون أنّ مرجعيتهم الفكرية مرتبطة بما قدّمه لويس من استشارات وكتابات وآراء حول العالمين العربي والإسلامي، بمن فيهم نائب الرئيس الأميركي الأسبق، ديك تشيني، وهو يميني معروف أيضاً؛ إذ قال “إنّ صانعي السياسة والدبلوماسيين وأقرانه من الأكاديميين والإعلام الجديد يسعون يومياً إلى حكمته في هذا القرن الجديد”.
يُعد -إذن- لويس أحد أبرز المفكّرين الذين أثّروا في اتجاه من السياسيين الأميركيين، وفي صناعة الآراء والأفكار لزمرة قادة العالم خلال العقود الماضية، بخاصة تجاه العالمين العربي والإسلامي ومنطقة الشرق الأوسط.
وإذا عدت إلى محرّك البحث “غوغل” باللغة العربية لتفتّش عن “نظرية المؤامرة” سيقفز مباشرةً أمامك اسم لويس، فهو -من وجهة نظر اتجاه عريض من المثقفين القوميين والإسلاميين واليساريين العرب- الأب الروحي للمؤامرة الأميركية-الصهيونية على العالمين العربي والإسلامي، وهو صاحب فكرة تقسيم المنطقة العربية إلى دويلات طائفية وعرقية ودينية، لتسهيل السيطرة على العالم العربي وتمكين إسرائيل لتكون قوة عظمى!
كتبتُ سابقاً -هنا في الغد- مقالاً عن لويس ونظرية المؤامرة وتنظيم داعش، بعد جلسة عصف فكري مع نخبة من الأكاديميين الأردنيين لمناقشة كتابي مع الصديق حسن أبو هنية عن تنظيم الدولة الإسلامية، قبل قربة 3 أعوام، فوجدتُ حينها أنّ أغلبية الحضور تحمّل لويس مسؤولية المؤامرة وتعتبر داعش جزءاً من عملية التفتيت التي تحدث للمنطقة!
إذا عدنا إلى ما أنتجه لويس، فمن الضروري أن نميّز بين أكثر من مستوى؛
المستوى الأول المعرفي والعلمي الذي قدّمه في تفسير التاريخ الإسلامي البعيد والجديد، وهو باحث متبحّر وعميق في هذا التاريخ وفهم البنى التي تحكم المجتمعات العربية والمسلمة، ثم تخصص في الدولة العثمانية.
والمستوى الثاني هي الكتب السياسية التي تتحدث عن الواقع السياسي والتنبؤات، وفيها تظهر آراؤه الاستشراقية وتأثيره الشديد وميوله الصهيونية.
والمستوى الثالث هو ارتباطه بدوائر المخابرات البريطانية، ثم الأميركية، وبأوساط سياسية يمينية أميركية، لذلك هنالك تسريبات وأحاديث عن مدى تأثيره في سياسات ضد العرب والمسلمين والإسلاميين، والإسلام عموماً، وإيران وتركيا، غزو العراق، ولاحقاً “المخطط الجهنمي الكبير” لتفكيك المنطقة وإعادة رسم الحدود الجغرافية والسياسية وتفتيت المسلمين.
ضمن هذا السياق من تعريف مستويات تأثيره وفكره من الضروري الإشارة إلى ملحوظتين؛
الأولى أنّ توصياته ونصائحه مرتبطة بقدرته على التنبؤ والتحليل وحيازة معرفة علمية عميقة ومهمة تمكّنه من معرفة المجتمعات العربية والمسلمة والبنى التاريخية والحديثة وأدوار الدين والحداثة والأطراف الإقليمية والداخلية المؤثرة، وبالتالي تصبح هنالك صعوبة لدينا للتمييز بين التنبؤات والتوصيات، لمدى قدرته على إدراك المتغيرات الفاعلة والمؤثرة، وهذه العقلية العلمية والبحثية والسياسية محدودة جداً، بل نادرة لدى المثقفين والباحثين العرب للأسف الشديد!
الملحوظة الثانية هي رسالة وزير الخارجية واعترافات تشيني والتأثير الهائل لديه على الساسة الغربيين، بينما نحن في العالم العربي قلّما تجد مسؤولاً رفيعاً يقرأ كتاباً أو حتى يكمل مقالاً طويلاً في جريدة، فضلاً أن يعود لفهم ما يحدث للباحثين والمفكرين والمتخصصين، فهذا فرق أيضاً كبير جداً، ليس فقط بين نوعية ومستوى المسؤولين، بل يفسّر لنا الفرق في عملية صنع القرار ونتائج السياسات وخلفياتها!
د. محمد ابو رمان