كتّاب

حكومة النهج الجديد!

على مدار أسبوع بين الأربعاء والأربعاء، على محيط الرابع، قدم الشباب الأردني عرضا في العمل الاحتجاجي أبهر الجميع في الخارج كما في الداخل، بما في ذلك الحكومة نفسها التي كانوا يطلبون إسقاطها. فأسقطوا المقولة التقليدية عن هيبة السلطة التي تستوجب عدم الاستجابة تحت الضغط، وببصيرة ثاقبة استجاب جلالة الملك فورا، وذهب الى تكليف شخصية تتلاقى بالضبط مع المعاني والدلالات التي استبطنتها حركة الشباب. ولطالما تقدم الملك على كل من يحيطون به في رؤية الفرص الجديدة في التحديات الخطيرة، ولطالما مكنت هذه الرؤية الفطينة الأردن من تجاوز أصعب الأوقات وأقسى الأزمات.
كان يحدث في زمن الاسترخاء أن المصالح والعقليات والثقافة القديمة تعود لتتسيد في المجتمع وفي إدارة الشأن العام. وانعدام الحرص على المال العام ومظاهر الإهمال والهدر والبذخ والامتيازات التي استمرت عبر المحطات القاسية على الاقتصاد من انقطاع الغاز المصري وارتفاع أسعار النفط الى إغلاق المعابر مع سورية والعراق وضرب النقل والسياحة والصناعة والركود الاقتصادي وبالنتيجة ارتفاع المديونية وتفاقم عجز المالية العامّة، تطورات كانت تستدعي حالة طوارئ اقتصادية من ضمنها ضبط النفقات الجارية وتقليص الامتيازات بصورة دراماتيكية لتوفير المال للنفقات الرأسمالية التي تنقذ الاقتصاد من الركود، لكن الحكومات لجأت كالعادة الى الحلول المالية السهلة؛ أي الجباية من المواطن لنصل الى النقطة الأخيرة التي طفح معها الكيل.
كان يمكن للحكومة تجاهل الأمر والمضي قدما في عملها لو خرجت الاحتجاجات غوغائية فوضوية وانتقامية، وكان الأمن قادرا على ردعها وقمعها وبغطاء من الرأي العام الذي يجفل من أي مظاهر تهدد أمن البلد واستقراره، لكن ما حصل كان شيئا فريدا يتجاوز في أهميته الاحتجاجات نفسها الى دلالاتها بالنسبة لتطور المجتمع المدني. ودعوني أذهب الى زاوية بعيدة واحدة في النظر للأمر. إن ثقافة الإنتاجية والمسؤولية والإنجاز ضعيفة في مجتمعنا وتخنقها ثقافة البلاغة العاطفية والفردية والأنانية والمراوغة والتبرير، ونجد هذا في علاقة الناس بدولتهم وفي سلوكهم حين يكونون معارضين أو محتجين، لكن الوقائع هذه المرة أظهرت شيئا مختلفا مفعما بمعان ثقافية متقدمة. لقد مورست الاحتجاجات بواقعية وكفاءة ومسؤولية ليس من نخبة تعدّ بالعشرات بل بعشرات الآلاف ولم يكن لمراقب نبيه إلا أن يتوقع نجاحها في إنجاز أهدافها. وفي الحياة اليومية، كان يمكن رصد هذا التطور في ثقافة الأبناء من الطبقة الوسطى من دون الإحاطة بدلالاته حتى جاء الامتحان الأخير ورأينا كيف يتفاعل الشباب مع الحدث والعمل الجماعي بكفاءة ووعي وذكاء وروح عملية ومسؤولية متحللين من العقد والخوف وقد حلّ محلهما إحساس طاغ بالحق والمشروعية. لقد اكتشفنا جيلا جديدا يعكس معنى تطور المجتمع المدني، وهو سوف يحتل في قادم الأيام المساحة الشاغرة في السياسة التي كانت تشغلها الإيديولوجيا والعقائدية.
أمام الحكومة المقبلة فرصة تحويل التحدي الاقتصادي الاجتماعي الخطير الى مسار نهوض جديد اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا. وفي المدى القريب، ستمنح فزعة الأشقاء المأمولة القدرة على تجنب إجراءات أكثر قسوة على معيشة الناس، وإذا فتحت الحدود شمالا سنحصل على فرص إضافية، لكن أبدا للاسترخاء وتجاهل خفض الامتيازات والضبط الصارم للنفقات ومنع البذخ والهدر. ثمة إجراءات وقرارات قوية يمكن ويجب أن تبادر لها الحكومة ليس للشعبوية بل عربون ثقة للنهج الجديد.

جميل النمري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *