“النمو” كلمة جميلة، وأجمل منها كلمة “التحفيز”، فالأولى فيها كل معاني التكثير والزيادة والإثراء، والثانية مكتظة بمعاني النشاط والهمة والحيوية، ويكفيها جمالاً أن عكسها هو التكسيل والخمول و”التكويع”.
النمو كلمة مستخدمة بكثرة منذ عشرات السنين، غير أن الجديد هو ربطها بكلمة تحفيز، فقد اعتدنا على عبارات مثل رفع النمو وزيادته وتشجيعه وتدعيمه، أما تحفيزه، فهو استخدام جديد. وفي التفاصيل نجد أنه يمكننا بسهولة ومن دون الإخلال بالمعنى، أن النمو يتحقق بالمزيد من الاستثمار، الذي علينا أن نعمل على جلبه وتشجيعه، وتسهيل تنفيذه وإزالة العراقيل أمامه.
كل هذه أمور حسنة ومرغوبة فعلاً وتُدخل السرور العام وتُسهم في زيادة الناتج القومي للسعادة، محسوبة هذه المرة بالمال مباشرة، والذي هو من أبرز زينات الحياة الدنيا.
لكن هل من المنطقي أن نجعل من هذه الأمور الحسنة جواباً عن الأزمة التي يواجهها أغلب الجمهور والمتمثلة بزيادة صعوبة العيش بكرامة، وتهديد الفقراء بالمزيد من الفقر، وتوقع انضمام فئات جديدة واسعة إلى عالم الفقر.. إلى آخره من مشكلات باتت مفرداتها أشبه بالمحفوظات الشعبية؟
من المحزن أن المدرسة الاقتصادية السائدة في البلد تعتمد فكرة اقتصادية هرمة شائخة، تعود إلى حوالي سبعين عاماً مضت؛ أي إلى بدايات التفكير بالتنمية في العالم الثالث، والتي تقول إن النمو، وإن كان يجري في البداية لمصلحة فئة محدودة، لكنه حتماً سيفيد الجميع لاحقاً، وهي الفكرة التي عُرفت باسم نظرية الرذاذ المتساقط، فقد زعمت بأن رذاذ النمو سيتساقط خيراً على الجميع ولو بعد حين.
والغريب أن الأردن لم يتبن هذه النظرية عند نشوئها وعندما كانت ما تزال تتمتع بالبريق، فقد تبنى الفريق الاقتصادي الأردني في ستينيات القرن الماضي (رغم أنه كان أكثر تواضعا ولم يسمِّ نفسه فريقاً)، تبنى سياسة تنموية أخرى، وفي الأرشيف نقرأ مثلاً فكرة تقول إن على الدولة ألا تسمح بتسلط رأس المال عليها، وأنها هي التي ينبغي أن تتسلط عليه وأنها تسمح له بحرية العمل مقابل أن تأخذ حق المجتمع منه، وكلمة “تسلط” هذه استخدمت في مواقف وأوراق رسمية. كما نقرأ عن ترحيب باستثمار يخضع لمتطلبات التنمية الوطنية، بل وصل الأمر إلى رفض مشاريع اقترحها البنك الدولي لأنها لا تتواءم مع متطلباتنا، بل سوف نقرأ أنه في خمسينيات القرن الماضي رفض الأردن تسديد حصته في رأسمال البنك الدولي، لأن البنك لا يراعي المصلحة الوطنية!
إن العناية بالجدوى الاقتصادية أمر مهم من دون شك، ولكن عندما يتعلق الأمر بالشؤون الاقتصادية لعموم الناس، فإن العناية بـ”الجدوى التنموية” أكثر أهمية، لأننا في بلد يقول دستوره إن الناس متساوون عند الدولة.
تعالوا نسأل ببساطة وعلى سبيل المثال: إذا كان لدينا ساحة عامة أقيمت فيها 10 بسطات خضار، ويعمل عليها 10 أشخاص كل منهم يعيل أسرة، وتدر كل منها 10 دنانير، وجاءنا من يقترح إقامة مشروع كبير يدر ألف دينار على صاحبه، فأي الخيارين أفضل تنموياً؟
لا تظنوا أن السؤال على سذاجته يخلو من المنطق الاقتصادي، ذلك أن علم الاقتصاد يعتمد دوماً نماذج تفكير تبنى على متغير واحد، وتفترض تجميد باقي المتغيرات أو جعلها صفراً.
إن نصير تحفيز النمو سيختار حتماً الخيار الثاني وسوف يطرد أصحاب البسطات الذين لا يحققون معاً سوى 100 دينار، بينما يحقق المشروع الكبير 1000 دينار؛ أي عشرة أضعاف، ولكنه قد يطمئننا بقوله إن هناك احتمالا أن يتمكن أصحاب البسطات في مرحلة لاحقة من العمل كحراس أو كخدم في المشروع الكبير، وهذا هو الرذاذ الذي سوف يتساقط عليهم!
احمد ابو خليل