في كل صيف، ومنذ أكثر من ثلاثة عقود، تستعد جرش لاستقبال فعاليات مهرجانها الفني الثقافي السياحي السنوي الذي انطلقت نسخته الأولى العام 1980. الآلاف من الزوار والسواح وهواة الفن والشعر والتراث والموسيقى من الأردن وسائر البلدان العربية يتوافدون على المدينة الأثرية لحضور حفل أو قضاء أمسية في ساحات المدينة التي حافظت على أعمدتها ومدرجاتها وميادينها لأكثر من ألفي عام.
المهرجان الذي اختار جرش ليظهر جمالياتها ويعبر عن قدرة الفن والشعر والموسيقى على بعث وإذكاء قيم الحب والقرب والاحتفاء بالحياة، يدفع ببعض الإخوة للاعتراض والاحتجاج والمطالبة بالتأجيل أو الإلغاء تحت مبررات تتراوح بين صعوبة الظروف التي تمر بها الأمة الى تحريم مثل هذه النشاطات واعتبارها خروجا على الموروث والتقاليد.
في محيط يسوده الموت والقتل والتآمر ومجتمعات تتوالد فيها القوى المعادية للحياة، توجد مساحة ومتسع لمن يذكرنا بأهمية الحياة وضرورة الاحتفال بها وضخ الروح والمشاعر التي يمكن أن تخفض حجم التوتر وتقلل من منسوب الاستفزاز الذي يتنامى يوما بعد يوم.
لم أجد، من خلال تجربتي المتواضعة ورحلاتي التي أخذتني لأكثر من نصف أقطار العالم وشغفي بمعرفة ثقافة وطبائع الأمم والأعراق والشعوب، أمة أو جماعة أو شعبا لا يعتز بتراثه وفنونه وينظم الاحتفالات والمناسبات التي يقدم فيها الموسيقى والأشعار والأصوات والرقصات التي تحمل دلالات ومعاني ورموزا تعبيرية وتشكل مناسبة للتواصل والتفاعل مع الثقافات والهويات والجماعات الأخرى.
اعتقاد البعض أن السياحة ستتطور في بلادنا من خلال دعوة الأمم لزيارة أكوام الحجارة والآثار بالتأشير عليها في أجواء نستعرض فيها التكشيرة الأردنية وملاحقة الناس بالإدانة والتزمت والاستنكار، تحت أي مبرر، سلوك فيه الكثير من المبالغة والتجاهل والإنكار للكثير من الخصائص والسمات والحقائق التي أقرتها الشعوب والثقافات والأمم.
في تركيا التي أصبحت أحد أهم مقاصد السياحة للعرب والأردنيين بشكل خاص، هناك تنوع ثقافي يعكس طبيعة المجتمع الذي يحترم خيارات الأفراد وتباين الأذواق والحاجة الى التغيير والتعرف والترفيه التي يتطلع إليها السائح.
الأردن الذي يحظى بموقع جغرافي مميز ومكانة حضارية وتنوع في التضاريس والمناخ وغنى في الموروث الحضاري الثقافي الديني، لم يتمكن حتى اليوم من استثمار إمكاناته في تحقيق الجذب السياحي وتثبيت مكانه على الخريطة السياحية العالمية. أعداد الليالي السياحية التي توفرها فنادق المملكة أقل بكثير مما يمكن أن توفره مدينة أوروبية أو تركية واحدة، والعديد من المرافق الموجودة في المواقع السياحية لا توفر خدمات تكفل راحة الزائر. إضافة الى افتقار البيئة الى الخدمات والبرامج التي قد تسهم في إطالة إقامة الزائر.
العروض الفنية والثقافية التي يقدمها مهرجان جرش للثقافة والفنون، منتجات ثقافية فنية سياحية تسهم في الترويج للأردن وتنشيط الحركة الاقتصادية وتوفير متنفسات للشباب والأسر الأردنية لقضاء أوقات ممتعة، كما أنها تسهم في رفد الحركة الفنية والثقافية بفرص جديدة للعمل.
من حق الإنسان الأردني الذي يواجه العديد من الضغوط والأزمات التي تحد من قدرته على السفر والحصول على قسط من التسلية والترفيه والمتعة، أن يجد بدائل وفعاليات سهلة الوصول ومحدودة الكلفة من دون أن يحاصره النقد والتحريم والإدانة، كما أن من حق جرش أن تكون مقصدا لجماهير الفن والشعر والموسيقى والفلكلور لتتنشط أسواقها وحرفها وخدماتها السياحية.
في كل عام يعقد فيها المهرجان وسط أصوات القنابل والبارود ورائحة الموت، نستذكر أحد نجوم الغناء العربي الذي أعاد نشر التراث النوبي محمد منير وهو يصدح “علي صوتك.. علي صوتك بالغنا.. لسا الأغاني ممكنة ممكنة”.
جرش ليست مجرد أغان ومطربين وموسيقى. جرش رسالة فيها تراث، وفيها ثقافة، وفيها أمن، وفيها سياحة، وفيها اقتصاد وتنوع ومحاربة لثقافة الموت.. وهو احتفاء بالحياة على مقربة من براميل البارود.
د. صبري الربيحات