كتّاب

“كيف يمكننا إتعاسك”؟!

لا يمر يوم إلاّ ونسمع فيه قصصاً مؤلمة ومحزنة تتحدث عن هروب الاستثمارات من البلاد، وإغلاق مصانع والانتقال إلى مناطق أخرى، ونتحدث هنا عن ثروات تقدّر بالبلايين، من صناعات وتجارات مختلفة، لأردنيين يفضلون دولاً أخرى؛ مثل الإمارات، مصر وتركيا وعرب مثل  السوريين والعراقيين، الذين خسرنا نسبة كبيرة من نشاطاتهم في السوق المحلية.
الأسباب متنوعة ومتعددة، لكن من الواضح أن خطط تشجيع الاستثمار وتحفيزه والقرارات والسياسات اللاحقة التي تحاول الاستدراك لم تجد نفعاً، وإذا كانت هنالك أرقام معاكسة لما نقول فإنّ الشواهد التي أمامنا أقوى من أي إدعاءات رسمية، وقد سمعت شخصيا من مستثمرين وأصدقاء عن حجم الأموال والاستثمارات والصناعات الهاربة من هنا خلال الأعوام الماضية ما هي الأسباب؟ كثيرة بالتأكيد، منها ما هو مرتبط بالإجراءات البيروقراطية غير المنطقية، ومنها ما هو مرتبط بالفساد الإداري، أو القوانين والسياسات، لكن في المحصلة ما هو واضح أنّنا نفتقد للرؤية والإرادة لتغيير الوضع الحالي، فالبيئة المحلية ليست جاذبة بصورة واضحة للاستثمارات المطلوبة.
في الوقت نفسه ما تزال قصص التهرب الضريبي واكتشاف مساحات واسعة من اقتصاد الظل تمثّل هي الأخرى ثروات منهوبة يمكن أن تساعد كثيراً في تحسين الأوضاع المالية في البلاد، وتغيير المعادلة الراهنة بصورة كبيرة.
بالنتيجة لدينا عمل شاقّ غير منجز في ترتيب البيت الداخلي، وهو أمر يتطلب عقولاً جديدة وتغييراً في المقاربات التي أوصلتنا إلى الوضع الراهن، وحلولاً جوهرية، ومطبخاً اقتصادياً غير تقليدي، يضع أسس المرحلة الجديدة، وربط الشفافية والمساءلة بإصلاح الإدارة العامة وتحسين بيئة الاستثمار وتطويرها بصورة جدية، والخروج من الحلقة المفرغة الراهنة، ووضع مسارات جديدة مختلفة عمّا سبق، فهل هذا مستحيل وصعب؟!
لا أظن ذلك أبداً، المسألة بحاجة إلى تغيير العقلية الرسمية نفسها بداية، ثم سيتغير كل شيء. يحدثني أصدقائي عن نموذج دبي، بخاصة في العمل البيروقراطي، فتجد أمامك – عند زيارة دوائر رسمية- عبارات مثل: “كيف يمكننا إسعادك”؟، وكلمة إسعاد بدلاً من مساعدتك، والهدف منها ليست فقط تحسين طلب الخدمة ولا دعاية سياسية، بل هي برمجة ثقافية جديدة لعقلية الموظف نفسه، الذي عليه أن يدرك بأنّ مهمته إنجاز المعاملات بصورة فاعلة وسريعة وتسهيل الطريق أمام الناس وليس العكس أبداً، للأسف الأصدقاء الأردنيون يتندرون بالمقارنة بين الحالتين بوضع كلمة: “كيف يمكننا اتعاسك”، كبرمجة ثقافية للعقلية الأردنية.
المعادلة بسيطة أمام الوزراء والمسؤولين الكبار؛ الرؤية والتخطيط الجيد والسليم والإرادة والعمل الدؤوب بمثابة مفاتيح التغيير، ومن لا يجد في نفسه القدرة على إحداث الفرق فليعد إلى منزله، فهذا أفضل من مسلسل التخبط والعجز الذي نلاحظه منذ أعوام والحلقة المفرغة أمام أجيال من المسؤولين المحبطين والمثبِّطين.
نعم هنالك أسباب إقليمية وسياسية خلقت مشكلات مالية لنا، لإعاقة حركة التجارة والبضائع، وهنالك تجفيف في المساعدات الخارجية، لكن علينا أن ندرك بأنّ بعض التحولات ستستمر طويلاً، وأن زمن المساعدات الخارجية انتهى، وأنّ جزءاً كبيراً من مشكلاتنا وأزماتنا مصدرها داخلي، سواء في التهرب الضريبي أو هروب الاستثمارات أو الاختلال في سوق العمل أو الفجوة بين مخرجات التعليم والعمل، أو الفساد الإداري، فأمام الحكومة ملفات كبيرة يمكن أن تحدث فرقاً هائلاً، لكنها تحتاج إلى عقول جبارة وجريئة.

د. محمد ابو رمان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *