كتّاب

كيكي!

من الصعيد المصري إلى حقول الأرز الهندية، ومن شوارع هوليوود إلى الجزر اليابانية انتشرت حمى الرقصة الجديدة المعروفة بـ”تحدي كيكي-Kiki Challenge” التي يؤديها الراقصون على أنغام موسيقى أغنية المطرب الكندي دريك جراهام بحركات تعبيرية يجري تصويرها من نافذة السيارة التي يضبط الراقص سرعته ليبقى موازيا لباب مقعدها الأمامي المفتوح.
الرقصة التي شكلت أحد أهم نماذج الغزو الثقافي ما تزال تنتشر بسرعة وتلقائية واستهوت الملايين لأدائها وإضافة لمساتهم الثقافية والإبداعية عليها. في حقول الأرز والقطن الموحلة في الهند وفي أدغال أفريقيا وصحراء الجزيرة العربية وفي ميادين وساحات المدن أدى عشاق الفن والمغامرة والحياة الرقصة، وعبروا عما في دواخلهم من شغف وحب ومغامرة بالرغم من خطورة المحاولة ووقوع الكثير من الحوادث لبعض من بالغوا في التوحد مع الموسيقى واستولت عليهم نشوة التجربة.
عالمية الموسيقى وقدرتها على اختصار المسافات وتجاوز الحدود والحواجز وكشف حجم التقارب بين أبناء الجنس البشري؛ عوامل يجري تجاهلها بالرغم من أنها تثبت مرة تلو الأخرى أنها أهم وأقوى العناصر التي تجمع وتقرب وتجسر كل أشكال التباين التي نلمحها بين الحين والآخر.
قبل سنوات قليلة، استطاع المغني الكوري بسي أن يحقق انتشارا واسعا تجاوز المليار مشاهدة عندما أطلق أغنيته المصاحبة لرقصة جنجام ستايل، خصوصا بعد أن أدى الرقصة بمشاركة رمزية من بان كي مون، الأمين العام السابق للأمم المتحدة. هذا العطش الإنساني للتعبير عن إنسانيتنا هو الذي يفسر مشاعر الحب والإعجاب التي جعلت المئات من أمثال بيتهوفن وشاكيرا وخوليو اجليسياس وتوم جونز وبافاروتي نجوما في سماء الفن العالمي وأساطير لا تتوقف شهرتهم عند نقاط الحدود أو تقتصر على الناطقين بلغة إنجازهم الفني.
في جدلية الحياة والموت، يقف الفن دوما الى جانب الحياة، وهو بلا شك لا يرى في الحياة إلا منحة تستحق الاحتفال والمتعة والإعمار من دون أي توقف عن إشاعة الحب والخير والسعادة في كل الاتجاهات. الأمل والمتعة اللذان يقدمهما الفن يخففان من منسوب القلق الذي ينتجه الساسة والمسلحون وزعماء الطوائف والنحل.
تحدي كيكي لا يشبه أيا من التحديات التي يراها ساسة العالم والقوى التي تتحكم بمصيره. تحديات اليوم متنوعة ولا حصر لها، بعضها عام والآخر خاص ومنها ما هو خطير أو أقل خطورة. المناخ والزلازل والحروب بأسلحة التدمير الشامل تحديات كبرى قد تنهي وجودنا. أما الفقر والجوع والبطالة والمرض فهي تحديات مقلقة يمكن التعامل معها والتغلب عليها.
اليوم، وسط الانقسامات العالمية وظهور أنماط جديدة من القيادات السياسية المغامرة وتبدل الكثير من القيم والقواعد التي حكمت العلاقات الدولية، وبالتزامن مع انهيار بعض التحالفات التقليدية وظهور دبلوماسية الصفقات وشيوع حالة من القلق العالمي بسبب بروز شهوة الانتقام وتغير مراكز صناعة القرار؛ يبحث الإنسان عما يربطه بغيره ويذكره بتشابه الجميع في المخاوف والمشاعر والآمال أكثر من الحاجة الى تغذية التمايز والخوف والاختلاف.
التحديات التي تواجهها الأمم اليوم من خلال المقاطعة والحصار والحرب والتضييق لا تخدم إلا ميول الاستعلاء والعدوان والعنصرية ولا تختلف كثيرا عن الممارسات المعادية للحياة. العالم اليوم بحاجة أكبر الى المزيد من الأعمال التي تغذي تعلق الناس بإنسانيتهم وتذكيرهم بعناصر الالتقاء والتقارب والوحدة.
في الكثير من بقاع الأرض، لا أظن أن أحدا اكترث لجنسية اوبري دريك جراهام، أهو كندي أم تركي أم أميركي أم سعودي، فهو للجميع مبدع أسهم في ابتكار رقصة استحوذت على اهتمام الجميع.

د. صبري الربيحات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *