حاز مقال الصحفي الأميركي، آرون ميغيد (AARON MAGID)، في مجلة السياسة الخارجية الأميركية عن الأردن، على اهتمام ملحوظ من قبل المواقع الإخبارية ونخبٍ سياسية. والفكرة الرئيسة هي افتراض الكاتب بأنّ الأردن يقوم بـ”لعبة مزدوجة”، تتمثل بأن هنالك خطابا متناقضا للحكومات الأردنية؛ الأول للشارع يتحدث عن مبدأ “الاعتماد على الذات”، والثاني للمجتمع الدولي ويتقمص فيه الأردن دور الضحية جراء الهجرات القسرية إلينا والظروف الإقليمية التي تزيد أعباء المديونية والعجز، وبالتالي يطالب الأردن باستمرار بمزيد من المساعدات الخارجية.
المفارقة، التي يفترضها الكاتب، هي أنّ الأردن ما يزال يعتمد على المساعدات الخارجية، فلا داعي للحديث عن الاعتماد على الذات، وفقط 4 % من الأردنيين يدفعون ضريبة الدخل، وثانياً لا تأتي المساعدات الخارجية بلا ثمن سياسي، وهو ما دفع الأردن لأخذ قرارات لإرضاء حلفائه الخليجيين، ويعرّض الموازنة الأردنية للخطر، في حال دخل الأردن في صدام مع حلفائه كما كاد يحدث مع إدارة الرئيس ترامب على خلفية موضوع القدس، وتهديد الأخير بوقف المساعدات عن الدول التي تقف ضده.
ثمّة معطيات حشدها الكاتب ليدلل على ما أسماه بـ”اللعبة المزدوجة”، وهي صحيحة كجزئيات، لكنّها ليست كذلك كـ”منهجية تحليلية”، بل التوصيف الدقيق للسياسات الأردنية الحالية هي أنّها انتقالية على صعيد المعادلة السياسية- الاقتصادية الداخلية، جرّاء أمرين اثنين أغفلهما الكاتب تماماً، وربما من المفيد إثارة النقاش العام حولهما، أردنياً:
الأمر الأول أنّ الدولة لم تعد قادرة على الاستمرار بالسياسات الاقتصادية والمالية السابقة، التي أدت إلى تضخّم القطاع العام، ورسوخ ثقافة الوظيفة فيه، لذلك لا بد من التوجه نحو “التشغيل بدلاً من التوظيف”، ما يترتب عليه من سياسات أخرى مهمة وضرورية، كإعادة هيكلة سوق العمل، وتعزيز التعليم المهني، ورأب الصدع بين سوق العمل ومخرجات التعليم، وضبط النفقات الحكومية، وتغيير ثقافة الاستهلاك المحلية، ومواجهة الفساد الإداري، والاهتمام بتخليق القطاع الخاص في المحافظات، وكلها عناوين لمرحلة جديدة يتحول فيها دور الدولة من المُؤمِّن الأكبر للوظائف والموارد المالية إلى النقيض تماماً من ذلك؛ أي جالبا للموارد من جيوب المواطنين.
واقع الأمر أنّ هذا التحول السياساتي المالي-الاقتصادي حدث بالفعل، والموازنة أصبحت تعتمد بدرجة كبيرة على الضرائب (ضريبة المبيعات بدرجة كبيرة، لذلك معلومات الكاتب عن دفع الأردنيين للضرائب مختلة، فالقصة مرتبطة بالعبء الضريبي بصورة عامة)، ومعدل البطالة ارتفع بصورة قياسية، نتيجة ضعف قدرة الدولة على التوظيف.
المشكلة هي في أنّ هذه التحولات المالية والاقتصادية لم تتأطر عبر نظرية سياسية/ سياساتية جديدة للدولة تشرح للمواطنين التحولات والتغييرات القائمة والقادمة، والسياق الجديد لعلاقة الدولة بهم. كما أنّها -هذه التحولات المالية- غير مفهومة حتى لمسؤولين داخل الدولة، وفي الوقت نفسه حدث تراجع ملحوظ في مستوى الخدمات التعليمية والصحية، وتشكلت معادلة مختلة بين الضرائب والخدمات، ومن هنا ولدت فكرة من الدولة الريعية إلى الرعاية لشرح الإطار العام لتحول دور الدولة والحكومات والمعادلة الجديدة المرتبطة بذلك.
في الخلاصة، موضوع الاعتماد على الذات ليس مبدأ أو شعارا وهميا، بل هي سياسات جارية على أرض الواقع، شئنا أم أبينا، مرتبطة ببعضها بعضا ومهمة مؤجلة علينا إنجازها لتخفيف اعتمادنا على الخارج، وهو ما يقودنا إلى المتغير الثاني، الذي يقف وراء التحول، وهو تراجع نسبة حجم المساعدات الخارجية في الموازنة، مقارنة بالعقود الماضية.
مطالبة الأردن بتعويضات ومساعدات من أجل تخفيف الضغوط المالية والاقتصادية لا يعني بالضرورة التراجع عن المبدأ الأول، بل منحنا مزيداً من الوقت لسلسلة العملية وتسلسلها وتخفيف الضغوط على الطبقات العريضة.
د. محمد ابو رمان