كنت قبل سنوات أجري دراسة ميدانية قصيرة عن ظاهرة “العنف المجتمعي”، والتي تمثلت حينها بمجموعة من المشاجرات الجماعية وبعض حالات الاعتداء على الأملاك العامة. وقد استهدفت الدراسة التعرف على الظاهرة من منظور الناس “الممارسين”؛ أي المتشاجرين وأنصارهم. وأذكر أني سألت فيما سألته عن موقف الزعامات المحلية من المشاجرات وعن العلاقة بين الزعامات وجمهور المتشاجرين، وفي الإجابات سمعت عبارةً اتضح لي أنها شهيرة في هذا المجال، تقول: “قومٍ بلا جُهّال ضاعت حقوقهم، وقومٍ بلا عُقّال راحوا قَطايِع”.
في الواقع، تشكل هذه العبارة قاعدة لتوزيع وتنظيم الأدوار بين القادة والجمهور.
هذه القاعدة الشعبية انتقلت إلى العمل السياسي العام، ولكن بالطبع بعد إجراء إعادة صياغة لها بحيث تكون أكثر “ثقافة”، ففي العمل السياسي يجري الحديث عن القيادة وعن الكوادر والنخب، كبديل عن “العُقّال”، وبالمقابل تستخدم مفردة “الجماهير” و”الشارع” كبديل عن “الجُهّال”، كما تستخدم في السياق عبارات مثل: “تثوير الشارع” أو الخروج إلى الشارع أو “الاستناد إلى الجماهير”، وقد يجري التفاوض على تهدئة الشارع، وتعقد المقارنات بين “شارعنا” و”شارعهم”، ويهتم “العُقال والجُهال” في الإجابة عن سؤال “الشارع مع من؟”.
تعقدت الظاهرة، ففي مشاجرات المجتمعات المحلية تجري الأمور بشكل بسيط وشفاف وعلى مرأى من الجميع؛ أي من العُقّال والجُهال معاً، بينما في المستويات السياسية المعاصرة، فإن العملية ذاتها تتوارى خلف مسميات معاصرة أيضاً.
فيما مضى كان النزول إلى الشارع يجري بشكل منظم، فالحزب أو مجموعة الأحزاب، عندما تقرر النزول إلى الشارع، فإنها تضع مسبقا الهدف والشعار، وكانت المسيرات ترفع يافطة أو اثنتين تحملان الشعار المركزي، وقد يصدر بيان مصاغ بدقة، وكانت الهتافات تحدد بشكل مركزي، وكذلك شكل المسير ومكانه وزمانه، كما يحدد الخطيب والكلمة الرئيسية، وتحدد أمكنة القادة بشكل منضبط.
منذ عصر الثورات الملونة، اختلفت العلاقة بين القادة والجمهور، فلم يعد القادة مصرين على مركزية كل العناصر، واقتصر التركيز على وجود العدد الكبير، ثم على الصورة التي ستبث وهي تحمل هذا العدد، ولا مانع من بعض التقنيات التي تضاعف مشهد الجمهور وتظهره أكثر مما هو عليه، ولم يعد مشروطا على المشارك العادي أن يلتزم بشعار مركزي، بل يمكنه أن يحمل الشعار الذي يريد، حتى لو لم يكن له صلة بالعنوان المركزي، فالمهم أن يحضر ويستثمر في الصورة. ففي ذروة التظاهرات قبل سنوات في الأردن، كان المنظمون يوفرون الأوراق وقطع الكرتون والأقلام المناسبة ويحثون المشاركين على طريقة: “اكتب شعارك بيدك”.
لا يعني ذلك أن مجتمع المسيرات أصبح منفلتاً بالكامل، ذلك أن المنصة الرئيسية (صناديق البكبات في الحالة الأردنية) ينبغي أن تبقى منضبطة، وكثيرا ما شهدت مشادات ومنعا وشدا وجذبا وضربا أحياناً، لأنه لا يجوز للمشارك العادي أن يتعدى موقعه أو أن يعتقد أن مساحته تصل إلى المنصة الرئيسية.
المشاركون العاديون يشكلون الأغلبية عادة، وهم يشعرون أنهم قدموا بإرادتهم الحرة، لأن آليات السيطرة والقيادة متوارية. غير أن القيادة في هذه الحالة تحافظ على مساحة كبيرة من حرية المناورة، بين التنصل من المسؤولية عن الجمهور، وبين التأكيد أو الإيحاء على القدرة على التحكم به، وتذكرون حالات أعلنت فيها قيادات سياسية عدم مسؤوليتها، وحالات أخرى كانت تقول: هذا جمهورنا.
غير أن السلطات الرسمية دخلت على معادلة “العُقّال والجُهال” الحديثة هذه. لعلكم لاحظتم مثلاً في التحرك الأخير (الدوار الرابع) أن كلاً من السلطة والمعارضات التقليدية والجديدة و”السوبر”، تدعي تمثيل الجمهور والمسؤولية عنه.
إنه بامتياز عصر “استعمال الجماهير”؛ أي استعمال العُقال للجهال، مع إمكانية قيام اتحاد “العُقال” من مختلف الأطراف في وجه “الجُهال” من مختلف الأطراف أيضاً.
احمد ابو خليل