دخل اعتصام ساحة العين في السلط شهره الثالث. والمشهد بسيط لكنه مكتظ بالمعاني والإشارات. وفي المجمل نحن نتحدث عن حوالي مائة رجل مواظب، وقد يزيد العدد في بعض الليالي، يجتمعون يوميا بعد صلاة العشاء لحوالي ساعة يتناوبون فيها على الكلام المركزي والجانبي، لكنهم وضعوا على لوحة كبيرة عنوانا لتحركهم حددوا فيه مطالبهم: حل الحكومة، والنواب، والتراجع عن رفع الأسعار، وحكومة إنقاذ ومكافحة الفاسدين.
بين فترة وأخرى، يتخذ نشاطهم شكل المسيرة التي تبدأ من مكان آخر في المدينة وتنتهي في الساحة، وفي هذه الحالة، فإن عدد المشاركين يرتفع، وقد يصل في بعض الحالات إلى ألف أو ألفين وذلك وفق المكان الذي نختاره للعد والإحصاء، ففي وسط المدينة نكون أمام تجمع كبير يتوزع بين مشارك ومتفرج، لكن الأهم أن التحرك يحظى عموماً باحترام الأهالي كما يبدو. إن ملاحظاتي هنا مبنية على حضور إحدى المسيرات وليلتين في الساحة ومتابعة يومية للبث الحي منها.
نسبة الرجال فوق سن الثلاثين عالية، وبعضهم في الستين والسبعين، بل هناك رجل من المواظبين يبدو أنه في حوالي الثمانين من عمره، يقول في العادة كلاما جميلا وعميقا وبسيطا عن السلط وعن الوطن الأردني وعن فلسطين وعن العدو الصهيوني. ويستمع له الحضور باحترام، وقد يغضب وينهر بعض الشباب فيستجيبون له بأدب التزاما بتقليد احترام الكبير.
يقود الهتافات في العادة رجل يصعب تقدير عمره، فقد متعه الله بوجه وملامح شابة، لكن بعضهم قال لي إنه في الواقع أكبر عمرا مما يبدو، وقد اختار طريقته الخاصة في صياغة الهتافات التي تنال استجابة عالية. وإلى جانبه يتميز بالهتافات فتى ما يزال طالب مدرسة، هو أصغر المواظبين، وقد استمعت إليه يروي ما حصل معه من نضوج في الساحة بعد تفاعله مع “الكبار”.
يتوزع محتوى التحرك على صنفين: فعندما يكون المعتصمون في الساحة، فإنهم يديرون أمرهم وكأنهم في بيت أحدهم، بما يعنيه ذلك من احترام، مع تجاوزات قليلة أحياناً. ولكن في أيام المسيرات، يخرج المشهد عن السيطرة؛ إذ تظهر مجموعة جديدة من “النشطاء”. والغريب أن هؤلاء لا يكملون مشوارهم إلى الساحة، فهم يكتفون بما تيسر من هتافات وحركات وأصوات وانفعالات لا علاقة لها بتقاليد الساحة، ثم ينسحبون قبل الوصول.
افترضتُ للحظة أن في الأمر تكتيكا ما، لكن مجريات نقاش الساحة تدل بوضوح على أن مجموعة الساحة من رجال السلط ينخرطون في تحرك “أصيل”، فالمنصة مفتوحة بشكل حقيقي، ويقوم منسق النقاش بمهمته بإنصاف لافت، ولا يسمح لنفسه بتوجيه النقاش أو جعله مجرد “تمثيلية نقاش”، تقود إلى أمر معد سلفاً، وغير ذلك مما يتقنه النشطاء في العادة.
من الواضح أن بعض الحضور هم من أصحاب التجارب السياسية الحزبية، لكنهم يحرصون عادة على أن الأولوية للساحة لا للحزب أو الفكرة المسبقة، وقد شدتني مثلا كلمات لأحدهم سبق أن ترشح على قائمة جبهة العمل الإسلامي، لكنه يقول في الساحة كلاما وطنيا عميقا يختلف كليا عن الخطاب التقليدي للتنظيمات التي عودتنا في السنوات الأخيرة على “أولوية الحزب”.
لقد وضعت الساحة أهدافا كبيرة، وواقعيا يصعب أن نتصور تحقيقها بقرار أو قرارات سريعة، لكن ما جرى إلى الآن في الساحة يعد إنجازاً لافتاً. إنه تمرين على عودة الصراع الاجتماعي السياسي إلى مساراته الطبيعية، فهناك تأصيل للغة وللمفردات ولطرق الإدارة، بل حتى لأخلاقيات الأردنيين في العمل الوطني.
احمد ابو خليل