الاعتقاد العام السائد عند الناس، أن الفساد ونهب المال العام والهدر والامتيازات هي سبب فقرهم وارتفاع كلف معيشتهم، ولذلك يغضبون ويثورون حين تحاول الدولة سدّ عجز الموازنة بمزيد من الجباية منهم، فهم لا يعتبرون أنفسهم مسؤولين ولا يصدقون ادعاء الدولة أنها تنفق عليهم أكثر مما تجبي منهم.
هل هذا الاعتقاد صحيح؟ قد يكون صحيحا بنسبة 10 % أو 20 %، لكن الأساس في صنع الرفاه ورفع مستوى المعيشة تحدده إنتاجية المجتمع وكفاءة الأداء العام، بمعنى إذا كان متوسط دخل الفرد هو 500 دينار شهريا فهو قد يرتفع بغياب الفساد الى 550 دينارا، لكن ليس الى 1000 دينار. ودخل الفرد في دولة متقدمة هو عشرة أضعاف دخل الفرد عندنا ليس فقط بسبب قلة الفساد والامتيازات، بل لأن إنتاجية المجتمع وكفاءة الأداء هما أضعاف ما عندنا.
لنأخذ قطاعا خدماتيا مثل القطاع الصحي، فنسبة الإنفاق على الصحة من الناتج المحلي الإجمالي في القطاعين العام والخاص عندنا قريبة من الدول المتقدمة (حوالي 10 %)، لكن مستوى الرعاية الصحية عندهم أفضل مرات عدة مما هو عندنا لأن الموارد المالية والبشرية توظف بكفاءة عالية لا تقارن بما يحدث عندنا.
والقصد من الحديث آنف الذكر، أن تكون توقعاتنا وطلباتنا من الحكومة واقعية. إن مكافحة الفساد والهدر والامتيازات لن تغير كثيرا مستوى المعيشة، لكنها تحسن الإحساس بالعدالة وتوجه المسؤولية الى تعزيز الأداء وقيم الإنتاجية لرفع مستوى المعيشة. وعلى كل حال، إذا نحينا العوامل “الموضوعية” الداخلية والخارجية التي تسهم في معاناة الاقتصاد وعجز الموازنة، فما هي الحصّة المباشرة للفساد والهدر والامتيازات؟! هذا موضوع شائك يصعب تحديده، لكن لو ذهبنا حصريا الى نسبة الهدر والامتيازات التي يمكن معالجتها في القطاع العام، فإنني أجازف بوضع نسبة تصل الى 5 % من الإنفاق، وهذا ليس بالرقم القليل، فهو يعادل مبلغ 400 مليون دينار إلا قليلا من النفقات الجارية للعام 2018. ونصفه الذي يغطي الأشهر الستة المقبلة يساوي 200 مليون.
يبدو أن الرئيس د. عمر الرزاز فكر برقم قريب عندما قدم وعدا في مؤتمره الصحفي بخفض النفقات الجارية بمبلغ 150 مليون دينار حتى نهاية العام الحالي! لا أعرف كيف وصل الى تقدير المبلغ، فمن المستحيل أن دراسة ميدانية أمكن إجراؤها في هذا الوقت القصير، لكن نرجح أن الرئيس تعبيرا عن الإرادة وحسن النوايا جازف بوضع تقدير لأقصى ما يمكن توفيره، وهو الآن أمام امتحان وسيحقق إنجازا باهرا إذا تمكن فعلا من تحقيق هذا الوفر، جميع المراقبين المختصين وكل العقول النيرة في الإدارة يجب أن تساعد على طرح الأفكار وتقديم المقترحات الخلاقة لسد منافذ الهدر والإنفاق الزائد والامتيازات.
لديّ الكثير من الأفكار بهذا الشأن وقد يكون لدى كثيرين ما هو أفضل، لكن سأقدم هنا مثالا واحدا لم ألاحظ أن أحدا طرحه، وهو إنفاق الموازنة على التأمين الصحي للوزراء والنواب والأعيان ومن ماثلهم بالدرجة؛ فالتأمين الصحي يغطي نسبة 100 % من كلفة علاجهم لدى القطاع الخاص، وقد أذهلني هذا الامتياز حين كنت نائبا، فكل أفراد العائلة المشمولين بالتأمين يمكن أن يختاروا أي مستشفى خاص للإقامة والعلاج ترفا أو للضرورة مجانا، ويمكن للمستشفى أو المركز الطبي أن يجور كما يشاء في التوسع بالكلف ما دامت الدولة تتكفل بالنفقات حتى آخر فلس، وقد طلبت مرة تقريرا من الحكومة عن الكلفة الإجمالية السنوية لهذا التأمين ولم يصلني الجواب، ومنذ ذلك الحين وأنا أقترح أن يدفع المؤمن نسبة من الكلفة (15 % مثلا).. وأكرر هذا الاقتراح الآن.