أظهر الشارع الأردني، كالعادة، اهتماماً نوعياً وملحوظاً بنتائج الانتخابات التركية، وانقسم (السوشال ميديون) بين شريحة واسعة مؤيدة لأردوغان، ومبتهجة بالنصر الانتخابي الذي تحقق، وأقليّة معارضة له، وأقلية أخرى تحاول التموضع موضوعياً نحو عدم التقديس وفي الوقت نفسه عدم الشيطنة!
الشغف الأردني بأردوغان، وبنتائج الانتخابات التركية ليس استثنائياً، قبل ذلك وجدنا المناظرات والجدال نفسه عن عودة رئيس الوزراء التاريخي المعروف، مهاتير محمد، إلى موقع السلطة بعد غياب طويل، وتلقف النشطاء الافتراضيون ذلك ودخلنا في مناظرات ونقاشات طويلة في تقييم ما حدث.
ربما ينظر البعض إلى هذه “المناظرات المحلية” كانعكاس لحالة الانقسام الواضحة اجتماعياً وسياسياً وثقافياً في أوساط الشارع الأردني بين التيار الإسلامي ويصطف إلى جواره نسبة معتبرة من الليبراليين من جهة والتيارات العلمانية والقومية واليسارية، كامتداد لانقسامات الربيع العربي والموقف مما حدث ويحدث في مصر وسورية!
لكن ثمّة زاوية أخرى لا تقلّ أهمية عن الزاوية السابقة (وهي صحيحة أيضاً) تتمثّل في أنّ مستوى الوعي السياسي و”الثقافة المحفِّزة” لدى الأردنيين عاليان، وبالرغم من أنّ هذه المناظرات تنطبق على كثير من الدول العربية، لكن بالنسبة والتناسب نجد درجة الاهتمام الأردني كبيرة، والنقاشات عميقة وعلى مستوى عالٍ من المحاججة والسجال والنقاش، ما يعكس حالة من النمو والصعود في تأطير الثقافة السياسية المحلية.
يعزز هذه الدعوى أنّ هذه الانقسامات الأيديولوجية الحادّة لم تمنع الأردنيين أنفسهم المتجادلين من رسم اللوحة المشتركة الجميلة في 30 أيار وما بعدها في الاحتجاج السلمي الحضاري على قرارات وتشريعات الحكومة السابقة، ما أدى إلى إسقاطها.
بل أكثر من ذلك، تجنّب الشباب الأردني في الاحتجاجات حالة الانقسام عبر منع رفع الرايات والأعلام الحزبية والسياسية المتعددة، والتوحّد خلف مطالب مشتركة متناغمة، ما حيّد الخلافات على الأقل في تلك اللحظة التاريخية.
“الثقافة السياسية المحفّزة”، التي أتحدث عنها، عامل مهم من عوامل النهوض الوطني في المرحلة المقبلة، والخروج من حالة السلبية أو اللامبالاة الوطنية، فالنظرة الأردنية إلى أردوغان ومهاتير ترتبط بما أنجزاه لدولتيهما كقائدين في دول إسلامية أحدثا نقلة نوعية حقيقية في التنمية والاقتصاد، وهو ما يحفّزنا إلى التفكير في إنجازات أردنية حقيقية في المرحلة المقبلة، ولم لا؟!
الأردن حقّق معجزة أيضاً خلال الأعوام الماضية، وكان جزيرة مستقرة هادئة وسط قارة من الأعاصير والزلازل، ويبدو اليوم دولة عميقة راسخة فيما كان سابقاً في أعين الجيران العرب وكثير من السياسيين الغربيين والعرب والأردنيين “كياناً وظيفياً”، مؤقتاً، مرتبطاً بمعادلات خارجية.
آن الأوان أن نتجاوز هذه المعادلات التي ما يزال للأسف فريق من السياسيين الأردنيين يؤمن بها، ومن الضروري أن تتحوّل “الثقافة المحفّزة” إلى الداخل الوطني، سياسياً واقتصادياً وثقافياً، نحو مشروع تنمية ونهضة وتجديد وإصلاح، وهو المقصود بـ”العقد الاجتماعي الجديد” الذي ما يزال يستفزّ الكثير من السياسيين والإعلاميين، فلتتم تسميته بأيّ عنوان، لكن المهم أنّ نلتفت إلى الإصلاح الداخلي المتكامل، وإلى النماذج الناجحة في المنطقة، ولا نبقى نعيش فقط تحت وطأة الشعور بالتهديد الدائم والقلق والكيانية الوظيفية، التي تجاوزها الأردن، لكنّها مهيمنة على ذهن نخب سياسية ورسمية ومحافظة!
الشباب الأردني اليوم، الذي رأينا حركته في الأيام الماضية، تجاوز في وعيه وثقافته تلك الثقافة السلبية، وهو يبحث عن مشروع لبناء وطنه، لماذا لا ننجز ونطوّر ونبدأ مرحلة جديدة؟!
د. محمد ابو رمان