العلاقة بين الدولة والمجتمع لا تقتصر على حصول الافراد على جنسية الدولة ودفع الضرائب مقابل توفيرها لخدمات الصحة والتعليم ودعوتهم للمشاركة في انتخاب المجالس البلدية والنيابية وامتثال الافراد للانظمة والقوانين، بل تتعداها الى توفير القنوات المشروعة الكافية للتعليم والعمل والتعبير والتنظيم والنشاط والانتاج الفكري والمادي والتجاري والابداع بكافة اشكاله.
توفير بيئة تشريعية ومؤسسية وتنظيمية خالية من العوائق والعقبات وقادرة على أن تمكّن جميع الافراد من استثمار طاقاتهم وامكاناتهم الى الحدود القصوى مسؤولية اساسية تنهض بها دول الديمقراطيات الراسخة. في هذه المجتمعات تجري مراجعات دورية لهياكل المؤسسات ونوعية الانشطة وعلاقة الافراد بها. في كل مرة ترتفع فيها معدلات العنف او البطالة او الجريمة والفقر او ينخفض أداء طلبة المدارس على المؤشرات العالمية تستنفر الدولة اجهزتها الفنية وتستدعي الخبراء لتدارس الاوضاع وايجاد الحلول.
إعادة الهيكلة وتغيير الخطة ووضع الاستراتيجية لا يكون عملا ديكوريا دعائيا للمسؤول الجديد بمقدار ما يعبر عن توجه سياسي برامجي يرمي الى تحقيق اهداف محددة ضمن اطر زمنية وبوجود مخصصات مالية تضمن تنفيذ الخطط وانشطتها. استخدام المؤشرات الكمية والكيفية لقياس الاداء تحدد مدى النجاح او الفشل في الوصول الى ما ترمي اليه الاستراتيجيات والخطط.
اليوم لا يخلو اي حديث في الشأن المحلي من التطرق لظواهر العنف والفقر والجريمة والمخدرات والبطالة. البعض يتناول هذه القضايا باعتبارها ظواهر مستقلة ومنفصلة عن بعضها بعضا ترتفع او تقل معدلاتها بفعل قوى مجهولة او غامضة. من المنظور الشعبي يعتقد غالبية المعلقين والمهتمين ان المشكلات تعود لخصائص الافراد والعوامل الاسرية اكثر مما يعزونها لعوامل بنائية وتنظيمية. العديد من المعلقين يلقون باللوم على الافراد المتورطين بالجريمة والبطالة والعنف والفقر دون اي اشارة تذكر الى مسؤولية المجتمع والحكومات والبرامج عن وجود او غياب هذه الظواهر. في معظم الحالات تقتصر استجابة المحيطين بالافراد الذين يرتكبون افعالا مخالفة للقانون او يعانون من المشكلات الاخرى على وصمهم بالمجرمين والمدمنين والفقراء والمتسكعين والشريرين.
ما يقوم به المجتمع من معالجات للحد من بعض الظواهر والمشكلات المقلقة محدود، إذا ما استثنينا برنامج المعونة الوطنية الموجهة نحو الاسر الاكثر فقرا. بعض البرامج القائمة متواضعة التأثير لاسباب يعود بعضها الى نقص المعرفة بالعوامل المؤدية وعشوائية التدخلات وافتقارها الى مؤشرات القياس والتقويم.
الكثير مما تعاني منه مجتمعاتنا يعود الى طبيعة البناء الاجتماعي وسرعة التغير وعجز الهياكل القائمة على خلق فرص كافية ومتكافئة للافراد والجماعات. في مراحل الرعي والزراعة عاش الانسان في حالة تفاعل واتصال واشتباك دائم مع الطبيعة للتكيف مع تحدياتها، فشعر بقدر من الحرية والتناغم والانسجام.
اليوم ومع ارتفاع معدلات التحضر والتصنيع وتكدس السكان في المدن والمراكز الحضرية ووجود مؤسسات تحكمها التشريعات في بيئة يسودها تقسيم العمل، أصبحت أعداد كبيرة من الناس يعانون من العزلة وانعدام الفرص المناسبة وانحباس وتكبيل طاقاتهم الامر الذي يدفعهم للبحث عن منافذ جديدة مبتكرة لتسريب واستثمار طاقاتهم.
إعادة الهيكلة ومراجعة التنظيمات وايجاد مزيد من الفرص هي الوسائل الأهم لتوسيع المشاركة وتقليل حجم الطاقة المكبوتة او المستخدمة في نشاطات معادية للمجتمع.
د. صبري الربيحات