لم يكن ردّ فعل صندوق النقد الدولي وملاحظاته على التعديلات الحكومية المقترحة متوقّعاً، بهذه الدرجة من السلبية والرفض، وبالإصرار على سياسات معيّنة تعيدنا إلى مشروع الحكومة السابقة، وفي بعض البنود إلى ما هو أسوأ من ذلك!
لو قلّبت الحكومة بدائلها جميعاً، فلن يكون هنالك مخرج واحد غير “دمغة” صندوق النقد على هذه التعديلات، كي يتمكن الأردن من الاقتراض بأسعار فائدة منخفضة، وشراء ديون بفوائد عالية، والحصول على دعم ومنح وقروض الخزينة اليوم بأمسّ الحاجة إليها.
رهان الحكومة كان على الوصول إلى “صيغة” معتدلة توازن بين الاعتبارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية من جهة والأوضاع المالية الصعبة من جهةٍ ثانية، على فرضية أنّ الصندوق معنيّ بالنتائج وليس بالسياسات، لكن ردّ فعل الصندوق جاء محبطاً جداً للحكومة، وأكثر تشدّداً مما سبق، بخاصة ما يتعلّق بالشرائح الاجتماعية والإعفاءات الضريبية.
هل الصندوق له وصاية علينا ويلزمنا بقرارات معينة، ولا نملك رفض مقترحاته وتوصياته؟
الجواب: لا. لكن ما هو البديل اليوم لدى الدولة، وليس الحكومة الحالية، لأنّنا نتعامل مع أزمة عابرة للحكومات؟ الجواب أيضاً: لا بديل عن التفاهم والتفاوض مع الصندوق، لأنّ الوضع المالي على درجة عالية من الصعوبة، وهنالك استحقاقات جديدة في العام المقبل، من قروض وفوائد قروض، كل ذلك مرتبط بكلمة واحدة من مدير صندوق النقد.
موقف الصندوق، بالضرورة، استفزّ النواب، وقرأنا تصريحات عنيفة ضد مسؤول بعثة صندوق النقد الدولي للأردن، مارتن سيرسول، بسبب هذا “التشنّج” في التعامل مع المقترحات الجديدة، والإصرار على توتير الأوضاع الداخلية وإعادتنا إلى المربع الأول، وأجواء ما حدث على الدوّار الرابع.
في المقابل، يردّ مسؤولو الصندوق بأنّه لا يوجد أحد يجبر الأردن على القبول بوصفتهم! لكن لديهم هم أيضاً قراءتهم للأوضاع المالية. والأسوأ من ذلك أنّه -أي الصندوق- يفسّر كل موقف عدائي وهجوم عليه نيابياً أو إعلامياً، بأنّه تحريض من الحكومة، وبأنّها -أي الحكومة- قادرة على تمرير القرارات الصعبة في حال أرادت ذلك!
طبعاً موقف الصندوق فيه تجاهل كامل لما حدث من تداعيات على المشروع الأول، وأدى إلى رحيل حكومة الملقي، واختزال لكل شيء وكأنّه قرار حكومي، وهذا غير دقيق، ويؤدي إلى إضعاف الاستقرار السياسي في البلاد، وربما يقودنا إلى مرحلة خطيرة وغير معروفة النتائج.
بالنتيجة، لا بديل عن الوصول إلى صيغة من التفاهم المنطقي والمشروع، في المشروع المعدّل والتفاوض مع الصندوق، لكن الحكومة ستحكم على نفسها بالانتحار السياسي، وسيتجاوزها الأمر إلى تعزيز الأزمة السياسية وتجذيرها، في حال أصرّ الصندوق على عناده في التعامل مع التعديلات الحكومية.
لا نريد أن نذهب إلى التفسير، الذي أصبح شائعاً ومتداولاً بين السياسيين الأردنيين، بأنّ المسألة تبدو كأنّها سياسية، وليست مالية، ومرتبطة بالمواقف الأردنية من ملفات مهمة ورئيسة، بخاصة ما يتعلّق بالقضية الفلسطينية وملفات الحل النهائي، ما يعني أنّ هذه المفاوضات أصبحت بمثابة “ليّ ذراع” للدولة وليس فقط للحكومة.
المطلوب اليوم أن ندرك جميعاً، نحن الأردنيين، في مواقع المسؤولية والمعارضة والشارع، بأنّ اللحظة الراهنة صعبة جداً وحاسمة. لكن إذا تجاوزنا فقط هذا المنعطف، فإنّ الأمور ستتحسن مالياً واقتصادياً. فمن الضروري أن نقف وراء الحكومة في مفاوضاتها الراهنة مع الصندوق، وأن نضع خلافاتنا جانباً، لأنّ النتائج البديلة ستكون كارثية على البلاد والعباد.
د. محمد ابو رمان