بين قرع الصواريخ المتبادل في المنطقة كاملة الغليان، تتهيأ سفارة الولايات المتحدة لموقعها الجديد؛ يمنح من لا يملك لمن لا يستحق.
لدينا رصيد كافٍ للأسى، والشجب والتنديد…لدينا رصيد كافٍ من الحسرة على إيليا وبيت المقدس والقدس الشريف، على الأقصى والقيامة، على باب العامود وباب الأسباط، على صحنٍ من كنافة ‘العكر’ تناوله أحد ‘الشراقى’في الخان الاحمر، على كساراتٍ في شعفاط والنبي يعقوب آوى إليها المتعبون ساعات المغيب.
عشنا في كتب التاريخ مع القدس وجراحها التي لا تنتهي. منذ خمسه آلاف عام كانت أور سالم ويبوس الكنعانية وايليا اليونانية، عصفت بها الحروب على اختلاف الحضارات فيها : اليبوسيين والكنعانيين واليونان والرومان والفراعنة والأشوريين والبيزنطيين والعثمانيين، لكنها تبقى القدس: المدينة التي تشكل القاسم المشترك في الأزمات عبر التاريخ، والمقدسة اسلامياً وعروبيا وتاريخيا، وهي التي تشتعل الشوارع لأجلها وتُقرع طبول الحرب.
في معارك باب الواد واللطرون وكفار عصيون، حافظ الجيش العربي على القدس العربية، وأثبتوا فيها أقدامهم رجولةً وبطولة وقتالا، حتى إذا ما أوشكوا على تحرير الحي اليهودي فيها ( القدس الغربية)، فرضت هيئة الأمم هدنة غير عادلة، فكان خط الهدنة يعانق مقدمات البنادق، بينما العيون تتطاير شررا…
نكبة موجعة جديدة بانتظار القدس، ستنقل راعية مؤتمرات ومباحثات السلام سفارتها إليها، إلى القدس الغربية. قد يبدو ذلك وعد انتخابي محدود، أو نزوة سياسية عابرة، لكنّه أبدا ما كان كذلك، هو طعنة جديدة في خاصرة الأمة، وهو جرح على جرح، نازفا حزينا….
لكننا أبدا محكومون بالأمل، على مدينة السلام التي يبغونها، في تقسيمها، عوجا، على نداء المآذن وأجراس الكنائس، على طابور صباح الكتيبة الرابحة وهي تجري تمرينا ميدانياً في محيطها…
هذا اسبوع القدس وشهره وعامه، هذا اسبوع المدينة النازفة، اسبوع الشهداء الذين ارتقوا، اسبوع كل مقدسي مرابط ينسج لأحفاده سيرة الرباط وملاحم الجهاد، فليكن هذا عام القدس…
لكننا أبدا محكومون بالقدس، ببوصلتها المؤشرة دوما لاتجاه الدين والعروبة، بأسوارها وقد غدت شواهد على البطولات، بأبوابها وهي مفاتيح التاريخ، بهذا الغضب على كوارثها وبهذا الحزن على مآسيها.
نعم نحن محكومون بأن تبقى القدس، قاسم الأمة الأكبر، وقضيتهم التي لا تذهب، وأن تظل الضوء الذي يضيء عتمات الأنفاق، وسيظل صبرها وسيبقى شهداؤها نياشين وقصائد، وحلم بعيد لكنه ممكن، ولتتبارك مدينة المعراج، ولتبقى في القلوب مهما كانت، أسيرة أو محررة: قبلتنا الأولى ومهبط أفئدتنا وأحلام الأجيال في الحرية والعدل والسلام.
وعليك ان تدرك أيها المغتر بسيفك وملكك، أن قلمك الأسود ووعودك الظالمة وعقيرتك المرتفعة، لن تغير من تاريخ القدس شيئا، وعليك أن تعلم أن ‘نيرون مات ولم تمت روما، بعينيها تقاتل، وأن حبوب سنبلة تموت ستملأ الوادي سنابل’، وأن الدول والامم تعتلّ لكنها لا تموت، وتهزم الشعوب لكنها لا تستسلم، ويجول الباطل في حلبات كثيرة لكنه سيدوخ في نهاية الشوط وسيلقى به في سلال إعادة التدوير، علّ جزءاً صالحًا غير أحمق يخرج من جسده الذي أنهكته النساء وحلبات المصارعة .
د. نضال القطامين